للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: إِذْ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ أَنَّهَا لَكُمْ بَدَلٌ مِنْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ. قَالَ الْفَرَّاءُ/ وَالزَّجَّاجُ:

وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً [الزخرف: ٦٦] وأَنَّ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ كَمَا نَصَبَ السَّاعَةَ، وَقَوْلُهُ أَيْضًا: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ [الْفَتْحِ: ٢٥] أَنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِلَوْلَا. وَالطَّائِفَتَانِ: الْعِيرُ وَالنَّفِيرُ: وَغَيْرُ ذَاتِ الشَّوْكَةِ. الْعِيرُ. لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا أَرْبَعُونَ فَارِسًا وَالشَّوْكَةُ كَانَتْ فِي النَّفِيرِ لِعَدَدِهِمْ وَعُدَّتِهِمْ. وَالشَّوْكَةُ الْحِدَّةُ مُسْتَعَارَةٌ مِنْ وَاحِدَةِ الشَّوْكِ، وَيُقَالُ شَوْكُ الْقَنَا لِسِنَانِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ شَاكِي السِّلَاحِ. أَيْ تَتَمَنَّوْنَ أَنْ يَكُونَ لَكُمُ الْعِيرُ لِأَنَّهَا الطَّائِفَةُ الَّتِي لَا حِدَّةَ لَهَا وَلَا شِدَّةَ، وَلَا تُرِيدُونَ الطَّائِفَةَ الْأُخْرَى وَلَكِنَّ اللَّه أَرَادَ التَّوَجُّهَ إِلَى الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى لِيُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ، وَفِيهِ سُؤَالَاتٌ:

السؤال الأول: أليس أن قوله: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ثُمَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: لِيُحِقَّ الْحَقَّ تَكْرِيرٌ مَحْضٌ؟

وَالْجَوَابُ: ليس هاهنا تَكْرِيرٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ سَبَبُ مَا وَعَدَ بِهِ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ بِالْأَعْدَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالثَّانِي تَقْوِيَةُ الْقُرْآنِ وَالدِّينِ وَنُصْرَةُ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، لِأَنَّ الَّذِي وَقَعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ بَدْرٍ بِالْكَافِرِينَ كَانَ سَبَبًا لِعِزَّةِ الدِّينِ وَقُوَّتِهِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ قَرَنَهُ بِقَوْلِهِ: وَيُبْطِلَ الْباطِلَ الَّذِي هُوَ الشِّرْكُ، وَذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ الْحَقَّ الَّذِي هُوَ الدِّينُ وَالْإِيمَانُ.

السُّؤَالُ الثَّانِي: الْحَقُّ حَقٌّ لِذَاتِهِ، وَالْبَاطِلُ بَاطِلٌ لِذَاتِهِ، وَمَا ثَبَتَ لِلشَّيْءِ لِذَاتِهِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ تَحْصِيلُهُ بِجَعْلِ جَاعِلٍ وَفِعْلِ فَاعِلٍ فَمَا الْمُرَادُ مِنْ تَحْقِيقِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ؟

وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ مِنْ تَحْقِيقِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ، بِإِظْهَارِ كَوْنِ ذَلِكَ الْحَقِّ حَقًّا، وَإِظْهَارِ كَوْنِ ذَلِكَ الْبَاطِلِ بَاطِلًا، وَذَلِكَ تَارَةً يَكُونُ بِإِظْهَارِ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَتَارَةً بِتَقْوِيَةِ رُؤَسَاءِ الْحَقِّ وَقَهْرِ رُؤَسَاءِ الْبَاطِلِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا تَمَسَّكُوا فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيُحِقَّ الْحَقَّ قَالُوا وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ يُوجَدُ الْحَقُّ وَيَكُونُهُ، وَالْحَقُّ لَيْسَ إِلَّا الدِّينَ وَالِاعْتِقَادَ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الِاعْتِقَادَ الْحَقَّ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَكْوِينِ اللَّه تَعَالَى. قَالُوا: وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ تَحْقِيقِ الْحَقِّ عَلَى إِظْهَارِ آثَارِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ الظُّهُورَ حَصَلَ بِفِعْلِ الْعِبَادِ، فَامْتَنَعَ أَيْضًا إِضَافَةُ ذَلِكَ الْإِظْهَارِ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْ إِظْهَارِهِ وَضْعُ الدَّلَائِلِ عَلَيْهَا، لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكَافِرِ وَإِلَى الْمُسْلِمِ. وَقَبْلَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَبَعْدَهَا فَلَا يَحْصُلُ لِتَخْصِيصِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى فَائِدَةٌ أَصْلًا.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ أَيْضًا تَمَسَّكُوا بِعَيْنِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِمْ. فَقَالُوا هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ/ لَا يُرِيدُ تَحْقِيقَ الْبَاطِلِ وَإِبْطَالَ الْحَقِّ الْبَتَّةَ، بَلْ إِنَّهُ تَعَالَى أَبَدًا يُرِيدُ تَحْقِيقَ الْحَقِّ وَإِبْطَالَ الْبَاطِلِ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ لَا بَاطِلَ وَلَا كُفْرَ إِلَّا واللَّه تَعَالَى مُرِيدٌ لَهُ.

وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ فَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ تَحْقِيقَ الْحَقِّ وَإِبْطَالَ الْبَاطِلِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ؟ بَلْ قَدْ بَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>