للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شَدِيدَةً وَالْمُحَارَبَةُ دَائِمَةً، ثُمَّ زَالَتِ الضَّغَائِنُ، وَحَصَلَتِ الْأُلْفَةُ وَالْمَحَبَّةُ، فَإِزَالَةُ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ الشَّدِيدَةِ وَتَبْدِيلُهَا بِالْمَحَبَّةِ الْقَوِيَّةِ وَالْمُخَالَصَةِ التَّامَّةِ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّه تَعَالَى، وَصَارَتْ تِلْكَ مُعْجِزَةً ظَاهِرَةً عَلَى صِدْقِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ أَحْوَالَ الْقُلُوبِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْكَرَامَاتِ كُلُّهَا مِنْ خَلْقِ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ تِلْكَ الْأُلْفَةَ وَالْمَوَدَّةَ وَالْمَحَبَّةَ الشَّدِيدَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ وَمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ فِعْلًا لِلْعَبْدِ لَا فِعْلًا للَّه تَعَالَى، لَكَانَتِ الْمَحَبَّةُ الْمُرَتَّبَةُ عَلَيْهِ فِعْلًا لِلْعَبْدِ لَا فِعْلًا للَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ صَرِيحِ الْآيَةِ. قَالَ الْقَاضِي: لَوْلَا أَلْطَافُ اللَّه تَعَالَى سَاعَةً فَسَاعَةً، لَمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ، فَأُضِيفَتْ تِلْكَ الْمُخَالَصَةُ إِلَى اللَّه تَعَالَى عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ يُضَافُ عِلْمُ الْوَلَدِ وَأَدَبُهُ إِلَى أَبِيهِ، لِأَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ إِلَّا بِمَعُونَةِ الْأَبِ وتربيته، فكذا هاهنا.

وَالْجَوَابُ: كُلُّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ وَحَمْلٌ لِلْكَلَامِ عَلَى الْمَجَازِ، وَأَيْضًا كُلُّ هَذِهِ الْأَلْطَافِ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي حَقِّ الْكُفَّارِ، مِثْلَ حُصُولِهَا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ هُنَاكَ شَيْءٌ سِوَى الْأَلْطَافِ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْمَعَانِي فَائِدَةٌ، وَأَيْضًا فَالْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ مُقَوٍّ لِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَلْبَ يَصِحُّ أَنْ يَصِيرَ مَوْصُوفًا بِالرَّغْبَةِ بَدَلًا عَنِ النَّفْرَةِ وَبِالْعَكْسِ، فَرُجْحَانُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمُرَجِّحُ هُوَ الْعَبْدُ عَادَ التَّقْسِيمُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ اللَّه تَعَالَى، فَهُوَ الْمَقْصُودُ، فَعُلِمَ أَنَّ صَرِيحَ هَذِهِ الْآيَةِ مُتَأَكِّدٌ بِصَرِيحِ الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي هَذَا الْبَابِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا قَبْلَ شُرُوعِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ وَمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ/ فِي الْخُصُومَةِ الدَّائِمَةِ وَالْمُحَارَبَةِ الشَّدِيدَةِ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْبَعْضِ، فَلَمَّا آمَنُوا باللَّه وَرَسُولِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. زَالَتِ الْخُصُومَاتُ، وَارْتَفَعَتِ الْخُشُونَاتُ، وَحَصَلَتِ الْمَوَدَّةُ التَّامَّةُ وَالْمَحَبَّةُ الشَّدِيدَةُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْمَحَبَّةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ تَصَوُّرِ حُصُولِ خَيْرٍ وَكَمَالٍ، فَالْمَحَبَّةُ حَالَةٌ مُعَلَّلَةٌ بِهَذَا التَّصَوُّرِ الْمَخْصُوصِ، فَمَتَى كَانَ هَذَا التَّصَوُّرُ حَاصِلًا كَانَتِ الْمَحَبَّةُ حَاصِلَةً، وَمَتَى حَصَلَ تَصْوِيرُ الشَّرِّ وَالْبَغْضَاءِ: كَانَتِ النَّفْرَةُ حَاصِلَةً، ثُمَّ إِنَّ الْخَيْرَاتِ وَالْكَمَالَاتِ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْخَيْرَاتُ وَالْكَمَالَاتُ الْبَاقِيَةُ الدَّائِمَةُ، الْمُبَرَّأَةُ عَنْ جِهَاتِ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، وَذَلِكَ هُوَ الْكَمَالَاتُ الرُّوحَانِيَّةُ وَالسَّعَادَاتُ الْإِلَهِيَّةُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْكَمَالَاتُ الْمُتَبَدِّلَةُ الْمُتَغَيِّرَةُ، وَهِيَ الْكَمَالَاتُ الجسمانية والسعادات البدنية، فإنها سريعة التغيير والتبديل، كَالزِّئْبَقِ يَنْتَقِلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، فَالْإِنْسَانُ يَتَصَوَّرُ أَنَّ لَهُ فِي صُحْبَةِ زَيْدٍ مَالًا عَظِيمًا فَيُحِبُّهُ، ثُمَّ يَخْطُرُ بِبَالِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ لَا يَحْصُلُ فَيُبْغِضُهُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ إِنَّ الْعَاشِقَ وَالْمَعْشُوقَ رُبَّمَا حَصَلَتِ الرَّغْبَةُ وَالنَّفْرَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ مِرَارًا لِأَنَّ الْمَعْشُوقَ إِنَّمَا يُرِيدُ الْعَاشِقَ لِمَالِهِ، وَالْعَاشِقَ إِنَّمَا يُرِيدُ الْمَعْشُوقَ لِأَجْلِ اللَّذَّةِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ مُسْتَعِدَّانِ لِلتَّغَيُّرِ وَالِانْتِقَالِ، فَلَا جَرَمَ كَانَتِ الْمَحَبَّةُ الْحَاصِلَةُ بَيْنَهُمَا وَالْعَدَاوَةُ الْحَاصِلَةُ بَيْنَهُمَا غَيْرَ بَاقِيَتَيْنِ بَلْ كَانَتَا سَرِيعَتَيِ الزَّوَالِ وَالِانْتِقَالِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمُوجِبُ لِلْمَحَبَّةِ وَالْمَوَدَّةِ، إِنْ كَانَ طَلَبَ الْخَيْرَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالسَّعَادَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ كَانَتْ تِلْكَ الْمَحَبَّةُ سَرِيعَةَ الزَّوَالِ وَالِانْتِقَالِ، لِأَجْلِ أَنَّ الْمَحَبَّةَ تَابِعَةٌ لِتَصَوُّرِ الْكَمَالِ، وَتَصَوُّرُ الْكَمَالِ تَابِعٌ لِحُصُولِ ذَلِكَ الْكَمَالِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْكَمَالُ سَرِيعَ الزَّوَالِ وَالِانْتِقَالِ، كَانَتْ مَعْلُولَاتُهُ سَرِيعَةَ التَّبَدُّلِ وَالزَّوَالِ، وَأَمَّا إِنْ كان

<<  <  ج: ص:  >  >>