للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَإِنَّمَا أُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ فِي تَمَكُّنِهَا وَقُوَّةِ ثَبَاتِهَا كَالشَّيْءِ الْخِلْقِيِّ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ [النِّسَاءِ: ١٥٥] كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ [الْمُطَفِّفِينَ: ١٤] فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ. [التَّوْبَةِ: ٧٧] وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَكْفِي فِي حُسْنِ الْإِضَافَةِ أَدْنَى سَبَبٍ، فَالشَّيْطَانُ هُوَ الْخَاتِمُ فِي الْحَقِيقَةِ أَوِ الْكَافِرُ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا كَانَ هُوَ الَّذِي أَقْدَرَهُ أَسْنَدَ إِلَيْهِ الْخَتْمَ كَمَا يُسْنَدُ الْفِعْلُ إِلَى السَّبَبِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنِ التَّدَبُّرِ وَلَمْ يُصْغُوا إِلَى الذِّكْرِ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ إِيرَادِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمُ الدَّلَائِلَ أُضِيفُ مَا فَعَلُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ حُدُوثَهُ إِنَّمَا اتَّفَقَ عِنْدَ إِيرَادِهِ تَعَالَى دَلَائِلَهُ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَةِ: ١٢٥] أَيِ ازْدَادُوا بِهَا كُفْرًا إِلَى كُفْرِهِمْ.

وَرَابِعُهَا: أَنَّهُمْ بَلَغُوا فِي الْكُفْرِ إِلَى حَيْثُ لَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إِلَى تَحْصِيلِ الْإِيمَانِ لَهُمْ إِلَّا بِالْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَبْطُلَ التَّكْلِيفُ فَعَبَّرَ عَنْ تَرْكِ الْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ بِالْخَتْمِ إِشْعَارًا بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ انْتَهَوْا فِي الْكُفْرِ إِلَى حَيْثُ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْهُ إِلَّا بِالْقَسْرِ وَهِيَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى فِي وَصْفِ لَجَاجِهِمْ فِي الْغَيِّ. وَخَامِسُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حِكَايَةً لِمَا كَانَ الْكَفَرَةُ يَقُولُونَهُ تَهَكُّمًا بِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فُصِّلَتْ: ٥] وَنَظِيرُهُ فِي الْحِكَايَةِ وَالتَّهَكُّمِ قَوْلُهُ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [الْبَيِّنَةِ: ١] وَسَادِسُهَا: الْخَتْمُ عَلَى قُلُوبِ الْكُفَّارِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الشَّهَادَةُ مِنْهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وعلى قلوبهم بأنهم لَا تَعِي الذِّكْرَ وَلَا تَقْبَلُ الْحَقَّ، وَعَلَى أَسْمَاعِهِمْ بِأَنَّهَا لَا تُصْغِي إِلَى الْحَقِّ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ أُرِيدُ أَنْ تَخْتِمَ عَلَى/ مَا يَقُولُهُ فُلَانٌ، أَيْ تُصَدِّقُهُ وَتَشْهَدُ بِأَنَّهُ حَقٌّ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَأَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُ قَدْ شَهِدَ بِذَلِكَ وَحَفِظَهُ عَلَيْهِمْ.

وَسَابِعُهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّمَا جَاءَتْ فِي قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ مِنَ الْكُفَّارِ فَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ هَذَا الْخَتْمَ وَالطَّبْعَ فِي الدُّنْيَا عِقَابًا لَهُمْ فِي الْعَاجِلِ، كَمَا عَجَّلَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْكُفَّارِ عُقُوبَاتٍ فِي الدُّنْيَا فَقَالَ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [الْبَقَرَةِ: ٦٥] وَقَالَ: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [الْمَائِدَةِ: ٢٦] وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الْعُقُوبَاتِ الْمُعَجَّلَةِ لِمَا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مِنَ الْعِبْرَةِ لِعِبَادِهِ وَالصَّلَاحِ لَهُمْ، فَيَكُونُ هَذَا مِثْلَ مَا فُعِلَ بِهَؤُلَاءِ مِنَ الْخَتْمِ وَالطَّبْعِ، إِلَّا أَنَّهُمْ إِذَا صَارُوا بِذَلِكَ إِلَى أَنْ لَا يَفْهَمُوا سَقَطَ عَنْهُمُ التَّكْلِيفُ كَسُقُوطِهِ عَمَّنْ مُسِخَ، وَقَدْ أَسْقَطَ اللَّهُ التَّكْلِيفَ عَمَّنْ يَعْقِلُ بَعْضَ الْعَقْلِ كَمَنْ قَارَبَ الْبُلُوغَ، وَلَسْنَا نُنْكِرُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ فِي قُلُوبِ الْكَافِرِينَ مَانِعًا يَمْنَعُهُمْ عَنِ الْفَهْمِ وَالِاعْتِبَارِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ أَصْلَحُ لَهُمْ كَمَا قَدْ يَذْهَبُ بِعُقُولِهِمْ وَيُعْمِي أَبْصَارَهُمْ وَلَكِنْ لَا يَكُونُونَ فِي هَذَا الْحَالِ مُكَلَّفِينَ. وَثَامِنُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمُ الْخَتْمَ وَعَلَى أَبْصَارِهِمُ الْغِشَاوَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَائِلًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ كَالْبَلَادَةِ الَّتِي يَجِدُهَا الْإِنْسَانُ فِي قَلْبِهِ وَالْقَذَى فِي عَيْنَيْهِ وَالطَّنِينِ فِي أُذُنِهِ، فَيَفْعَلُ اللَّهُ كُلَّ ذَلِكَ بِهِمْ لِيُضَيِّقَ صُدُورَهُمْ وَيُورِثَهُمُ الْكَرْبَ وَالْغَمَّ فَيَكُونُ ذَلِكَ عُقُوبَةً مَانِعَةً مِنَ الْإِيمَانِ كَمَا قَدْ فَعَلَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَتَاهُوا ثُمَّ يَكُونُ هَذَا الْفِعْلُ فِي بَعْضِ الْكُفَّارِ وَيَكُونُ ذَلِكَ آيَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَلَالَةً لَهُ كَالرِّجْزِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى قَوْمِ فِرْعَوْنَ حَتَّى اسْتَغَاثُوا مِنْهُ، وَهَذَا كُلُّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَصْلَحُ لِلْعِبَادِ. وَتَاسِعُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا الْخَتْمَ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُعْمِيهِمْ قَالَ: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا [الْإِسْرَاءِ: ٩٧] وَقَالَ: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً [طه: ١٠٢] وَقَالَ: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ [يس: ٦٥] وَقَالَ: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لَا يَسْمَعُونَ