للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

النُّطْقُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّمَ الْبَصَرَ، لِأَنَّ آلَةَ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ أَشْرَفُ، وَلِأَنَّ مُتَعَلِّقَ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ هُوَ النُّورُ، وَمُتَعَلِّقَ الْقُوَّةِ السَّامِعَةِ الرِّيحُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْعِلْمِ هُوَ الْقَلْبُ. وَاسْتَقْصَيْنَا بَيَانَهُ فِي قَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: ١٩٣] فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ.

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: الْبَصَرُ نُورُ الْعَيْنِ وَهُوَ مَا يُبْصِرُ بِهِ الرَّائِي وَيُدْرِكُ الْمَرْئِيَّاتِ، كَمَا أَنَّ الْبَصِيرَةَ نُورُ الْقَلْبِ، وَهُوَ مَا يستبصر به ويتأمل، فكأنما جَوْهَرَانِ لَطِيفَانِ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا آلَتَيْنِ لِلْأَبْصَارِ وَالِاسْتِبْصَارِ، أَقُولُ: إِنَّ أَصْحَابَهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَرْضَوْنَ مِنْهُ بِهَذَا الْكَلَامِ: وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي الْإِبْصَارِ يَسْتَدْعِي أَبْحَاثًا غَامِضَةً لَا تَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ.

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قُرِئَ غِشاوَةٌ بِالْكَسْرِ وَالنَّصْبِ، وَغُشَاوَةٌ بِالضَّمِّ وَالرَّفْعِ، وَغَشَاوَةً بِالْفَتْحِ وَالنَّصْبِ، وَغِشْوَةٌ بِالْكَسْرِ وَالرَّفْعِ، وَغَشْوَةٌ بِالْفَتْحِ وَالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، وغشاوة بالعين غير المعجمة والرفع من الغشا، وَالْغِشَاوَةُ هِيَ الْغِطَاءُ، وَمِنْهُ الْغَاشِيَةُ، وَمِنْهُ غُشِيَ عَلَيْهِ إِذَا زَالَ عَقْلُهُ وَالْغَشَيَانُ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ.

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: الْعَذَابُ مِثْلُ النَّكَالِ بِنَاءً وَمَعْنًى، لِأَنَّكَ تَقُولُ أَعْذَبَ عَنِ الشَّيْءِ إِذَا أَمْسَكَ عَنْهُ، كَمَا تَقُولُ نَكَلَ عَنْهُ، ومنه العذاب، لِأَنَّهُ يَقْمَعُ الْعَطَشَ وَيَرْدَعُهُ بِخِلَافِ الْمِلْحُ فَإِنَّهُ يَزِيدُهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَسْمِيَتُهُمْ إِيَّاهُ نُقَاخًا، لِأَنَّهُ يَنْقَخُ الْعَطَشَ أَيْ يَكْسِرُهُ، وَفُرَاتًا لِأَنَّهُ يَرْفُتُهُ عَنِ الْقَلْبِ، ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهِ فَسُمِّيَ كُلُّ أَلَمٍ فَادِحٍ عَذَابًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَكَالًا أَيْ عِقَابًا يَرْتَدِعُ بِهِ الْجَانِي عَنِ الْمُعَاوَدَةِ، والفرق بين العظيم والكبير: أَنَّ الْعَظِيمَ نَقِيضُ الْحَقِيرِ، وَالْكَبِيرَ نَقِيضُ الصَّغِيرِ، فَكَأَنَّ الْعَظِيمَ فَوْقَ الْكَبِيرِ، كَمَا أَنَّ الْحَقِيرَ دُونَ الصَّغِيرِ، وَيُسْتَعْمَلَانِ فِي الْجُثَثِ وَالْأَحْدَاثِ جَمِيعًا، تَقُولُ: رَجُلٌ عَظِيمٌ وَكَبِيرٌ تُرِيدُ جُثَّتَهُ أَوْ خَطَرَهُ، وَمَعْنَى التَّنْكِيرِ أَنَّ عَلَى أَبْصَارِهِمْ نَوْعًا مِنَ الْأَغْطِيَةِ غَيْرَ مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ، وَهُوَ غِطَاءُ التَّعَامِي عَنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَلَهُمْ مِنْ بَيْنِ الْآلَامِ الْعِظَامِ نَوْعٌ عَظِيمٌ لَا يَعْلَمُ كُنْهَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَعْذِيبُ الْكُفَّارِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَحْسُنُ وفسروا قوله: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ بِأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ لَكِنَّ كَرَمَهُ يُوجِبُ عَلَيْهِ العفو، ولنذكر هاهنا دَلَائِلَ الْفَرِيقَيْنِ، أَمَّا الَّذِينَ لَا يُجَوِّزُونَ التَّعْذِيبَ فَقَدْ تَمَسَّكُوا بِأُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ التَّعْذِيبَ ضَرَرٌ خَالٍ عَنْ جِهَاتِ الْمَنْفَعَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا، أَمَّا أَنَّهُ ضَرَرٌ فَلَا شَكَّ، وَأَمَّا أَنَّهُ خَالٍ عَنْ جِهَاتِ الْمَنْفَعَةِ، فَلِأَنَّ تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ إِلَى غَيْرِهِ، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَعَالٍ عَنِ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ مِنَّا فِي الشَّاهِدِ، فَإِنَّ عَبْدَهُ إِذَا أَسَاءَ إِلَيْهِ أَدَّبَهُ، لِأَنَّهُ يَسْتَلِذُّ بِذَلِكَ التَّأْدِيبِ لِمَا كَانَ فِي قَلْبِهِ مِنْ حُبِّ الِانْتِقَامِ وَلِأَنَّهُ إِذَا أَدَّبَهُ فَإِنَّهُ يَنْزَجِرُ بَعْدَ ذَلِكَ عَمَّا يَضُرُّهُ. وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً إِلَى الْمُعَذَّبِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِ أَمَّا إِلَى الْمُعَذَّبِ فَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّ الْإِضْرَارَ لَا يَكُونُ عَيْنَ الِانْتِفَاعِ وَأَمَّا إِلَى غَيْرِهِ فَمُحَالٌ، لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ مِنْ إِيصَالِ النَّفْعِ، فَإِيصَالُ الضَّرَرِ إِلَى شَخْصٍ لِغَرَضِ إِيصَالِ النَّفْعِ إِلَى شَخْصٍ آخَرَ تَرْجِيحٌ لِلْمَرْجُوحِ عَلَى الرَّاجِحِ، وَهُوَ بَاطِلٌ وَأَيْضًا فَلَا مَنْفَعَةَ يُرِيدُ اللَّهُ تَعَالَى إِيصَالَهَا إِلَى أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ الِاتِّصَالِ مِنْ غَيْرِ تَوْسِيطِ الْإِضْرَارِ بِالْغَيْرِ، / فَيَكُونُ تَوْسِيطُ ذَلِكَ الْإِضْرَارِ عَدِيمَ الْفَائِدَةِ. فَثَبَتَ أَنَّ التَّعْذِيبَ ضَرَرٌ خالٍ عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِ الْمَنْفَعَةِ وَأَنَّهُ مَعْلُومُ الْقُبْحِ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ، بَلْ قُبْحُهُ أَجْلَى فِي الْعُقُولِ مِنْ قُبْحِ الْكَذِبِ الَّذِي