للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُؤَدِّيهَا وَيُزَجُّ فِي قَفَاهُ، فَهَذَا مَعْنَى الصَّغَارِ. وقيل: معنى الصغار هاهنا هُوَ نَفْسُ إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، وَلِلْفُقَهَاءِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ مِنْ تَوَابِعِ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ.

الْحُكْمُ الْأَوَّلُ اسْتَدْلَلْتُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ وَالْوَجْهُ فِي تَقْرِيرِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: «قَاتِلُوهُمْ» يَقْتَضِي إِيجَابَ مُقَاتَلَتِهِمْ، وَذَلِكَ مُشْتَمِلٌ عَلَى إِبَاحَةِ قَتْلِهِمْ وَعَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ بِسَبَبِ قَتْلِهِمْ، فَلَمَّا قَالَ: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ عَلِمْنَا أَنَّ مَجْمُوعَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ قَدِ انْتَهَتْ عِنْدَ إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، وَيَكْفِي فِي انْتِهَاءِ الْمَجْمُوعِ ارْتِفَاعُ أَحَدِ أَجْزَائِهِ، فَإِذَا ارْتَفَعَ وُجُوبُ قَتْلِهِ وَإِبَاحَةُ دَمِهِ، فَقَدِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ الْمَجْمُوعُ، وَلَا حَاجَةَ فِي ارْتِفَاعِ الْمَجْمُوعِ إِلَى ارْتِفَاعِ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْمَجْمُوعِ.

إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: قاتلوا الموصوفين مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ بِقَتْلِهِمْ وَقَوْلُهُ: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ لَا يُوجِبُ ارْتِفَاعَ ذَلِكَ الْحُكْمِ، لِأَنَّهُ كَفَى فِي انْتِهَاءِ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ انْتِهَاءُ أَحَدِ أَجْزَائِهِ وَهُوَ وُجُوبُ قَتْلِهِمْ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى بَعْدَ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ عَدَمُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ كَمَا كَانَ.

الْحُكْمُ الثَّانِي الْكُفَّارُ فَرِيقَانِ، فَرِيقٌ عَبْدَةُ الْأَوْثَانِ وَعَبَدَةُ مَا اسْتَحْسَنُوا، فَهَؤُلَاءِ لَا يُقَرُّونَ عَلَى دِينِهِمْ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ، وَيَجِبُ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، وَفَرِيقٌ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالسَّامِرَةُ وَالصَّابِئُونَ، وَهَذَانَ الصِّنْفَانِ سَبِيلُهُمْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ سَبِيلُ أَهْلِ الْبِدَعِ فِينَا، وَالْمَجُوسُ أَيْضًا سَبِيلُهُمْ سَبِيلُ أَهْلِ الْكِتَابِ،

لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ»

وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ،

فَهَؤُلَاءِ يَجِبُ قِتَالُهُمْ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ وَيُعَاهِدُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ لَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعَةَ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ قَيَّدَهُمْ بِكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَإِثْبَاتُ ذَلِكَ الحكم في غير هم يَقْتَضِي إِلْغَاءَ هَذَا الْقَيْدِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ.

الْحُكْمُ الثَّالِثُ فِي قَدْرِ الْجِزْيَةِ.

قَالَ أَنَسٌ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ دِينَارًا، وَقَسَمَ عُمَرُ عَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ اثْنَيْ عشر درهما، وعلى الأوسط أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَعَلَى أَهْلِ الثَّرْوَةِ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ.

قَالَ أَصْحَابُنَا: وَأَقَلُّ الْجِزْيَةِ دِينَارٌ، وَلَا يُزَادُ عَلَى الدِّينَارِ إِلَّا بِالتَّرَاضِي، فَإِذَا رَضُوا وَالْتَزَمُوا الزِّيَادَةَ ضَرَبْنَا عَلَى الْمُتَوَسِّطِ دِينَارَيْنِ، وَعَلَى الْغَنِيِّ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا: أَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُ أَخْذِ مَالِ الْمُكَلَّفِ إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى يُعْطُوا

<<  <  ج: ص:  >  >>