الْكاذِبِينَ
وَالثَّانِي: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا كَانَ يَأْذَنُ لَهُمْ فِي الْقُعُودِ فَهُمْ كَانُوا يَقْعُدُونَ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ يَصِيرُ ذَلِكَ الْقُعُودُ؟ عَلَامَةً عَلَى نِفَاقِهِمْ، وَإِذَا ظَهَرَ نِفَاقُهُمُ احْتَرَزَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَغْتَرُّوا بِقَوْلِهِمْ، فَلَمَّا أَذِنَ الرَّسُولُ فِي الْقُعُودِ بَقِيَ نِفَاقُهُمْ مَخْفِيًّا وَفَاتَتْ تِلْكَ الْمَصَالِحُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ لَمَّا اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضِبَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ عَلَى سَبِيلِ الزَّجْرِ كَمَا حَكَاهُ اللَّهُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ ثُمَّ إِنَّهُمُ اغْتَنَمُوا هَذِهِ اللَّفْظَةَ وَقَالُوا: قَدْ أَذِنَ لَنَا فَقَالَ تَعَالَى: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ أَيْ لِمَ ذَكَرْتَ عِنْدَهُمْ هَذَا اللَّفْظَ الَّذِي أَمْكَنَهُمْ أَنْ يَتَوَسَّلُوا بِهِ إِلَى تَحْصِيلِ غَرَضِهِمْ؟ الرَّابِعُ: أَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ الِاجْتِهَادُ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَالُوا: إِنَّهُ إِنَّمَا أَذِنَ بِمُقْتَضَى الِاجْتِهَادِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا تَمَكَّنُوا مِنَ الْوَحْيِ وَكَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى الِاجْتِهَادِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْوَحْيِ جَارِيًا مَجْرَى الْإِقْدَامِ عَلَى الِاجْتِهَادِ مَعَ حُصُولِ النَّصِّ، فَكَمَا أَنَّ هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ فَكَذَا ذَاكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْبَصْرِيَّةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا هُوَ مَوْصُوفٌ بِصِفَةِ الْمُرِيدِيَّةِ هُوَ مَوْصُوفٌ بِصِفَةِ الْكَارِهِيَّةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ قَالَ أَصْحَابُنَا: مَعْنَى كَرِهَ اللَّهُ أَرَادَ عَدَمَ ذَلِكَ الشيء. قال الْبَصْرِيَّةُ: الْعَدَمُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ عِبَارَةٌ عَنْ صِفَةٍ تَقْتَضِي تَرْجِيحَ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ، وَالْعَدَمُ نَفْيٌ مَحْضٌ، وَأَيْضًا فَالْعَدَمُ الْمُسْتَمِرُّ لَا تَعَلُّقَ لِلْإِرَادَةِ بِالْعَدَمِ بِهِ، لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، وَجَعْلَ الْعَدَمِ عَدَمًا مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ تَعَلُّقَ الْإِرَادَةِ بِالْعَدَمِ مُحَالٌ، فَامْتَنَعَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكَرَاهَةِ إِرَادَةُ الْعَدَمِ.
أَجَابَ أَصْحَابُنَا: بِأَنَّا نُفَسِّرُ الْكَرَاهَةَ فِي حَقِّ اللَّه بِإِرَادَةِ ضِدِّ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَهُوَ تَعَالَى أَرَادَ مِنْهُمُ السُّكُونَ، فَوَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنْ هَذِهِ الْإِرَادَةِ بِكَوْنِهِ تَعَالَى كَارِهًا لِخُرُوجِهِمْ مَعَ الرَّسُولِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا فِي مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَثَبَّطَهُمْ أَيْ فَكَسَّلَهُمْ وَضَعَّفَ رَغْبَتَهُمْ فِي الِانْبِعَاثِ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِيهِ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا صَرَّحْنَا بِالْحَقِّ، وَهُوَ أَنَّ صُدُورَ الْفِعْلِ يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُولِ الدَّاعِي إِلَيْهِ، فَإِذَا صَارَتِ الدَّاعِيَةُ فَاتِرَةً مَرْجُوحَةً امْتَنَعَ صُدُورُ الْفِعْلِ عَنْهُ، ثُمَّ إِنَّ صَيْرُورَةَ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ جَازِمَةٌ أَوْ فَاتِرَةٌ، إِنْ كَانَتْ مِنَ الْعَبْدِ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ اللَّه فَحِينَئِذٍ لَزِمَ الْمَقْصُودُ لِأَنَّ تَقْوِيَةَ الدَّاعِيَةِ لَيْسَتْ إِلَّا مِنَ اللَّه، وَمَتَى حَصَلَتْ تِلْكَ التَّقْوِيَةُ لَزِمَ حُصُولُ الْفِعْلِ، وَحِينَئِذٍ يَصِحُّ قَوْلُنَا فِي مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَمِّهِمْ وَإِلْحَاقِهِمْ بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعَاجِزِينَ الَّذِينَ شَأْنُهُمُ الْقُعُودُ فِي الْبُيُوتِ، وَهُمُ الْقَاعِدُونَ وَالْخَالِفُونَ وَالْخَوَالِفُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ.
[التَّوْبَةِ: ٨٧، ٩٣] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِمَّنْ كَانَ؟ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ بِذَلِكَ هُوَ الشَّيْطَانُ عَلَى سَبِيلِ الْوَسْوَسَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ قَالَ ذَلِكَ لِبَعْضٍ لَمَّا أَرَادُوا الِاجْتِمَاعَ عَلَى التَّخَلُّفِ، لِأَنَّ مَنْ يَتَوَلَّى الْفَسَادَ يُحِبُّ التَّكَثُّرَ بِأَشْكَالِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ هُوَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَذِنَ لَهُمْ فِي التَّخَلُّفِ فَعَاتَبَهُ اللَّه، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ هُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ لِأَنَّهُ قَدْ كَرِهَ خُرُوجَهُمْ لِلْإِفْسَادِ، وَكَانَ الْمُرَادُ إِذَا كُنْتُمْ مُفْسِدِينَ فَقَدْ كَرِهَ اللَّه انْبِعَاثَكُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَأَمَرَكُمْ بِالْقُعُودِ عَنْ هَذَا الْخُرُوجِ المخصوص.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute