للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاحِدًا يَقُولُ: الْإِنْسَانُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَذْهَبَ بِذَهَبِهِ إِلَى الْقَبْرِ، فَقُلْتُ بَلْ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ إِذَا أَنْفَقَهُ فِي طَلَبِ الرِّضْوَانِ الْأَكْبَرِ فَقَدْ ذَهَبَ بِهِ إِلَى الْقَبْرِ وَإِلَى الْقِيَامَةِ.

وَالْوَجْهُ الثَّامِنُ: وَهُوَ أَنَّ بَذْلَ الْمَالِ تَشَبُّهٌ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ، وَإِمْسَاكُهُ تَشَبُّهٌ بِالْبُخَلَاءِ الْمَذْمُومِينَ، فَكَانَ الْبَذْلُ أَوْلَى.

وَالْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّ إِفَاضَةَ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ مِنْ صِفَاتِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالسَّعْيُ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الصِّفَةِ بِقَدْرِ الْقُدْرَةِ تَخَلُّقٌ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ، وَذَلِكَ مُنْتَهَى كَمَالَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ.

وَالْوَجْهُ الْعَاشِرُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ لَهُ إِلَّا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: الرُّوحُ وَالْبَدَنُ وَالْمَالُ. فَإِذَا أُمِرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ صَارَ جَوْهَرُ الرُّوحِ مُسْتَغْرِقًا فِي هَذَا التَّكْلِيفِ. وَلَمَّا أُمِرَ بِالصَّلَاةِ فَقَدْ صَارَ اللِّسَانُ مُسْتَغْرِقًا بِالذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ، وَالْبَدَنُ مُسْتَغْرِقًا فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ، بَقِيَ الْمَالُ، فَلَوْ لَمْ يَصِرِ الْمَالُ مَصْرُوفًا إِلَى أَوْجُهِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ شُحُّ الْإِنْسَانِ بِمَالِهِ فَوْقَ شُحِّهِ بِرُوحِهِ وبدنه، وذلك جهل، لأن مراتب السعادات ثلاثة: أولها: السِّعَادَاتُ الرُّوحَانِيَّةُ.

وَثَانِيهَا: السِّعَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الْوُسْطَى. وَثَالِثُهَا: السَّعَادَاتُ الْخَارِجِيَّةُ وَهِيَ الْمَالُ وَالْجَاهُ. فَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ تَجْرِي مَجْرَى خَادِمِ السَّعَادَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ، فَإِذَا صَارَ الرُّوحُ مَبْذُولًا فِي مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ، ثُمَّ حَصَلَ الشُّحُّ بِبَذْلِ الْمَالِ لَزِمَ جَعْلُ الْخَادِمِ فِي مَرْتَبَةٍ أَعْلَى مِنَ الْمَخْدُومِ الْأَصْلِيِّ، وَذَلِكَ جَهْلٌ. فَثَبَتَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَيْضًا بَذْلُ الْمَالِ فِي طَلَبِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَالْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: شُكْرُ النِّعْمَةِ عِبَارَةٌ عَنْ صَرْفِهَا إِلَى طَلَبِ مَرْضَاةِ الْمُنْعِمِ، وَالزَّكَاةُ شُكْرُ النِّعْمَةِ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهَا لِمَا ثَبَتَ أَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ وَاجِبٌ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّ إِيجَابَ الزَّكَاةِ يُوجِبُ حُصُولَ الْأُلْفِ بِالْمَوَدَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَزَوَالَ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ عَنْهُمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْمُهِمَّاتِ، فَهَذِهِ وُجُوهٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي بَيَانِ الْحِكْمَةِ النَّاشِئَةِ مِنْ إيجاب الزكاة العائدة إلى معطي الزكاة، [القسم الثاني] فَأَمَّا الْمَصَالِحُ الْعَائِدَةُ مِنْ إِيجَابِ الزَّكَاةِ إِلَى مَنْ يَأْخُذُ الزَّكَاةَ فَهِيَ كَثِيرَةٌ، الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْأَمْوَالَ، وَلَيْسَ الْمَطْلُوبُ مِنْهَا أَعْيَانَهَا وَذَوَاتِهَا. فَإِنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِمَا فِي أَعْيَانِهِمَا إِلَّا فِي الْأَمْرِ الْقَلِيلِ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْ خَلْقِهِمَا أَنْ يُتَوَسَّلَ بِهِمَا إِلَى تَحْصِيلِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ، فَالْإِنْسَانُ إِذَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْمَالِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ كَانَ هُوَ أَوْلَى بِإِمْسَاكِهِ لِأَنَّهُ يُشَارِكُهُ سَائِرَ الْمُحْتَاجِينَ فِي صِفَةِ الْحَاجَةِ، وَهُوَ مُمْتَازٌ عَنْهُمْ بِكَوْنِهِ سَاعِيًا فِي تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْمَالِ، فَكَانَ اخْتِصَاصُهُ بِذَلِكَ الْمَالِ أَوْلَى مِنِ اخْتِصَاصِ غَيْرِهِ، وَأَمَّا إِذَا فَضَلَ الْمَالُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، وَحَضَرَ إِنْسَانٌ آخَرُ مُحْتَاجٌ، فَهَهُنَا حَصَلَ سَبَبَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوجِبُ تَمَلُّكَ ذَلِكَ الْمَالِ. أَمَّا فِي حَقِّ الْمَالِكِ، فَهُوَ أَنَّهُ سَعَى فِي اكْتِسَابِهِ وَتَحْصِيلِهِ، وَأَيْضًا شِدَّةُ تَعَلُّقِ قَلْبِهِ بِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ التَّعَلُّقَ أَيْضًا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَاجَةِ. وَأَمَّا فِي حَقِّ الْفَقِيرِ، فَاحْتِيَاجُهُ إِلَى ذَلِكَ الْمَالِ يُوجِبُ تَعَلُّقَهُ بِهِ، فَلَمَّا وُجِدَ هَذَانِ السَّبَبَانِ الْمُتَدَافِعَانِ اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ رِعَايَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ السَّبَبَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. فَيُقَالُ حَصَلَ لِلْمَالِكِ حَقُّ الِاكْتِسَابِ وَحَقُّ تَعَلُّقِ قَلْبِهِ بِهِ، وَحَصَلَ لِلْفَقِيرِ حَقُّ الِاحْتِيَاجِ، فَرَجَّحْنَا جَانِبَ الْمَالِكِ، وَأَبْقَيْنَا عَلَيْهِ الْكَثِيرَ وَصَرَفْنَا إِلَى الْفَقِيرِ يَسِيرًا مِنْهُ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَالَ الْفَاضِلَ عَنِ الْحَاجَاتِ الْأَصْلِيَّةِ إِذَا أَمْسَكَهُ الْإِنْسَانُ فِي بَيْتِهِ بقي مُعَطَّلًا عَنِ الْمَقْصُودِ الَّذِي لِأَجْلِهِ خُلِقَ الْمَالُ، وَذَلِكَ سَعْيٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ ظُهُورِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِصَرْفِ طَائِفَةٍ مِنْهُ إِلَى الْفَقِيرِ حَتَّى لَا تَصِيرَ تِلْكَ الْحِكْمَةُ مُعَطَّلَةً بِالْكُلِّيَّةِ. الثَّالِثُ:

<<  <  ج: ص:  >  >>