الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِاللَّهِ مُحَالٌ. فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَأْوِيلٍ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِالِاسْتِهْزَاءِ بِاللَّهِ هُوَ الِاسْتِهْزَاءُ بِتَكَالِيفِ اللَّهِ تَعَالَى. الثَّانِي:
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الِاسْتِهْزَاءَ بِذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ قَدْ يَسْتَهْزِئُ الْكَافِرُ بِهَا كَمَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ يُعَظِّمُهَا وَيُمَجِّدُهَا. قَالَ تَعَالَى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الْأَعْلَى: ١] فَأَمَرَ الْمُؤْمِنَ بِتَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ. وَقَالَ: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ [الْأَعْرَافِ: ١٨٠] فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: أَبِاللَّهِ وَيُرَادُ: أَبِذِكْرِ اللَّهِ. الثَّالِثُ: لَعَلَّ الْمُنَافِقِينَ لَمَّا قَالُوا: كَيْفَ يَقْدِرُ مُحَمَّدٌ عَلَى أَخْذِ حُصُونِ الشَّأْمِ وَقُصُورِهَا. قَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ: اللَّهُ يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَنْصُرُهُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ الْجُهَّالِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ ذَكَرَ كَلَامًا مُشْعِرًا بِالْقَدْحِ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ كَمَا هُوَ عَادَاتُ الْجُهَّالِ وَالْمُلْحِدَةِ، فَكَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَآياتِهِ فَالْمُرَادُ بِهَا الْقُرْآنُ، وَسَائِرُ مَا يَدُلُّ عَلَى الدِّينِ. وَقَوْلُهُ: وَرَسُولِهِ مَعْلُومٌ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا ذَكَرُوا مَا ذَكَرُوهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي لَفْظِ الِاعْتِذَارِ قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مَحْوِ الذَّنْبِ مِنْ قَوْلِهِمْ: اعْتَذَرَتِ الْمَنَازِلُ إِذَا دَرَسَتْ. يُقَالُ: مَرَرْتُ بِمَنْزِلٍ مُعْتَذِرٍ، وَالِاعْتِذَارُ هُوَ الدَّرْسُ وَأَخْذُ الِاعْتِذَارِ مِنْهُ. لِأَنَّ الْمُعْتَذِرَ يُحَاوِلُ إِزَالَةَ أَثَرِ ذَنْبِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: حَكَى ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّ الِاعْتِذَارَ هُوَ الْقَطْعُ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْقُلْفَةِ عُذْرَةٌ لِأَنَّهَا تُقْطَعُ، وَعُذْرَةُ الْجَارِيَةِ سُمِّيَتْ عُذْرَةً لِأَنَّهَا تُعْذَرُ أَيْ تُقْطَعُ، وَيُقَالُ اعْتَذَرَتِ الْمِيَاهُ إِذَا انْقَطَعَتْ، فَالْعُذْرُ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِقَطْعِ اللَّوْمِ سُمِّيَ عُذْرًا، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْقَوْلَانِ مُتَقَارِبَانِ، لِأَنَّ مَحْوَ أَثَرِ الذَّنْبِ وَقَطْعَ اللَّوْمِ يَتَقَارَبَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنْ ذَلِكَ الِاسْتِهْزَاءَ كَانَ كُفْرًا، وَالْعَقْلُ يَقْتَضِي أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى/ الْكُفْرِ لِأَجْلِ اللَّعِبِ غَيْرُ جَائِزٍ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُمْ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ مَا كَانَ عُذْرًا حَقِيقِيًّا فِي الْإِقْدَامِ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِهْزَاءِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا فِي نَفْسِهِ نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ أَنْ يَعْتَذِرُوا بِهِ لِأَنَّ الْمَنْعَ عَنِ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ وَاجِبٌ.
فَقَالَ: لَا تَعْتَذِرُوا أَيْ لَا تَذْكُرُوا هَذَا الْعُذْرَ فِي دَفْعِ هَذَا الْجُرْمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَحْكَامٍ.
الْحُكْمُ الْأَوَّلُ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِالدِّينِ كَيْفَ كَانَ كُفْرًا بِاللَّهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ وَالْعُمْدَةُ الْكُبْرَى فِي الْإِيمَانِ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَقْصَى الْإِمْكَانِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ.
الْحُكْمُ الثَّانِي:
أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ، الْكُفْرُ لَا يَدْخُلُ إِلَّا فِي أَفْعَالِ الْقُلُوبِ.