إِبْرَاهِيمَ مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ وَمَعَ كَوْنِهِ مَوْصُوفًا بِالْأَوَّاهِيَّةِ وَالْحَلِيمِيَّةِ مَنَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لِأَبِيهِ الْكَافِرِ، فَلِأَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مَمْنُوعًا مِنْ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَغْفَرَ لِأَبِيهِ. قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ [الشُّعَرَاءِ: ٨٦] وَأَيْضًا قَالَ عَنْهُ: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ [إِبْرَاهِيمَ: ٤١] وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ قَالَ: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مَرْيَمَ: ٤٧] وَقَالَ أَيْضًا: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الْمُمْتَحَنَةِ: ٤] وَثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِلْكَافِرِ لَا يَجُوزُ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صُدُورِ هَذَا الذَّنْبِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ [التوبة: ١١٤] وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْوَاعِدُ أَبَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَبَاهُ وَعَدَهُ أَنْ يُؤْمِنَ، فَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَسْتَغْفِرُ له لِأَجْلِ أَنْ يَحْصُلَ هَذَا الْمَعْنَى، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَأَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، وَتَرَكَ ذَلِكَ الِاسْتِغْفَارَ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْوَاعِدُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَعَدَ أَبَاهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ رَجَاءَ إِسْلَامِهِ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَعَدَهَا أَبَاهُ بِالْبَاءِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ ذَكَرَ فِي الْجَوَابِ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ.
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنَ اسْتِغْفَارِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ دُعَاؤُهُ لَهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُ آمِنْ حَتَّى تَتَخَلَّصَ مِنَ الْعِقَابِ وَتَفُوزَ بِالْغُفْرَانِ، وَكَانَ يَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ فِي أَنْ يَرْزُقَهُ الْإِيمَانَ/ الَّذِي يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ، فَهَذَا هُوَ الِاسْتِغْفَارُ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ يَمُوتُ مُصِرًّا عَلَى الْكُفْرِ تَرَكَ تِلْكَ الدَّعْوَةَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: ١١٣] عَلَى صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ فَلَا امْتِنَاعَ فِي الِاسْتِغْفَارِ لِلْكَافِرِ لِكَوْنِ الْفَائِدَةِ فِي ذَلِكَ الِاسْتِغْفَارِ تَخْفِيفُ الْعِقَابِ. قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْنَاهُ، أَنَّهُ تَعَالَى مَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً [التَّوْبَةِ: ٨٤] وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ عَمَّ هَذَا الْحُكْمَ، وَمَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، سَوَاءٌ كَانَ مُنَافِقًا أَوْ كَانَ مُظْهِرًا لِذَلِكَ الشِّرْكِ وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي بِهِ تَبَيَّنَ لِإِبْرَاهِيمَ أَنَّ أَبَاهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِالْإِصْرَارِ وَالْمَوْتِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِالْإِصْرَارِ وَحْدَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَبْعُدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَرَّفَهُ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَبَرَّأَ مِنْهُ. فَكَانَ تَعَالَى يَقُولُ: لَمَّا تَبَيَّنَ لِإِبْرَاهِيمَ أَنَّ أَبَاهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، فَكُونُوا كَذَلِكَ، لأني أمرتكم بمتابعة إبراهيم في قوله: وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [النساء: ١٢٥] .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ إِبْرَاهِيمَ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ. قَالَ: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة: ١١٤] وَاعْلَمْ أَنَّ اشْتِقَاقَ الْأَوَّاهِ مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ عِنْدَ شِدَّةِ حُزْنِهِ أَوَّهْ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ عِنْدَ الْحُزْنِ يَخْتَنِقُ الرُّوحُ الْقَلْبِيُّ فِي دَاخِلِ الْقَلْبِ وَيَشْتَدُّ حَرْقُهُ، فَالْإِنْسَانُ يُخْرِجُ ذَلِكَ النَّفَسَ الْمُحْتَرِقَ مِنَ الْقَلْبِ لِيُخَفِّفَ بَعْضَ مَا بِهِ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي اشْتِقَاقِ هَذَا اللَّفْظِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ عِبَارَاتٌ،
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْأَوَّاهُ: الْخَاشِعُ الْمُتَضَرِّعُ»
وَعَنْ عُمَرَ: أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْأَوَّاهِ، فَقَالَ: «الدَّعَّاءُ»
وَيُرْوَى أَنَّ زَيْنَبَ تَكَلَّمَتْ عِنْدَ الرَّسُولِ عليه الصلاة