للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَعَالَى: وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الْأَحْزَابِ: ١٠] وقوله: لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ [آلِ عِمْرَانَ: ١٥٢] الْآيَةَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ وَصْفُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْأَوْقَاتِ الشَّدِيدَةِ وَالْأَحْوَالِ الصَّعْبَةِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ نِهَايَةَ الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ وَفِيهِ مَبَاحِثُ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فَاعِلُ كادَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قُلُوبُ وَالتَّقْدِيرُ: كَادَ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ تَزِيغُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ ضَمِيرُ الْأَمْرِ وَالشَّأْنِ، وَالْفِعْلُ وَالْفَاعِلُ تَفْسِيرٌ لِلْأَمْرِ وَالشَّأْنِ، وَالْمَعْنَى: كَادُوا لَا يَثْبِتُونَ عَلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ لِشِدَّةِ الْعُسْرَةِ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: قَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ يَزِيغُ بِالْيَاءِ لِتَقَدُّمِ الْفِعْلِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ لِتَأْنِيثِ قُلُوبٍ، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا زَاغَتْ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ.

الْبَحْثُ الثَّالِثُ: (كَادَ) عِنْدَ بَعْضِهِمْ تُفِيدُ الْمُقَارَبَةَ فَقَطْ، وَعِنْدَ آخَرِينَ تُفِيدُ الْمُقَارَبَةَ مَعَ عَدَمِ الْوُقُوعِ، فَهَذِهِ التَّوْبَةُ الْمَذْكُورَةُ تَوْبَةٌ عَنْ تِلْكَ الْمُقَارَبَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الَّذِي وَقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ. فَقِيلَ: هَمَّ بَعْضُهُمْ عِنْدَ تِلْكَ الشِّدَّةِ الْعَظِيمَةِ أَنْ يُفَارِقَ الرَّسُولَ، لَكِنَّهُ صَبَرَ وَاحْتَسَبَ. فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: / ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لَمَّا صَبَرُوا وَثَبَتُوا وَنَدِمُوا عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ الْيَسِيرِ. وَقَالَ الْآخَرُونَ بَلْ كَانَ ذَلِكَ لِحَدِيثِ النَّفْسِ الَّذِي يَكُونُ مُقَدِّمَةَ الْعَزِيمَةِ، فَلَمَّا نَالَتْهُمُ الشِّدَّةُ وَقَعَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ وَمَعَ ذَلِكَ تَلَافَوْا هَذَا الْيَسِيرَ خَوْفًا مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً. فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ.

فَإِنْ قِيلَ: ذَكَرَ التَّوْبَةَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَفِي آخِرِهَا فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّكْرَارِ؟

قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ابْتَدَأَ بِذِكْرِ التَّوْبَةِ قَبْلَ ذِكْرِ الذَّنْبِ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ الذَّنْبَ ثُمَّ أَرْدَفَهُ مَرَّةً أُخْرَى بِذِكْرِ التَّوْبَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَعْظِيمُ شَأْنِهِمْ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا قِيلَ: عَفَا السُّلْطَانُ عَنْ فُلَانٍ ثُمَّ عَفَا عَنْهُ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعَفْوَ عَفْوٌ مُتَأَكِّدٌ بَلَغَ الْغَايَةَ الْقُصْوَى فِي الْكَمَالِ وَالْقُوَّةِ،

قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَغْفِرُ ذَنْبَ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ عِشْرِينَ مَرَّةً»

وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ يُرِيدُ ازْدَادَ عَنْهُمْ رِضًا.

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ وَهَذَا التَّرْتِيبُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ تَعَالَى تَابَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَسَاوِسِ الَّتِي كَانَتْ تَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى زَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ: مِنْ بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ أَفَادَتْ حُصُولَ وَسَاوِسٍ قَوِيَّةٍ، فَلَا جَرَمَ أَتْبَعَهَا تَعَالَى بِذِكْرِ التَّوْبَةِ مَرَّةً أُخْرَى لِئَلَّا يَبْقَى فِي خَاطِرِ أَحَدِهِمْ شَكٌّ فِي كَوْنِهِمْ مُؤَاخَذِينَ بِتِلْكَ الْوَسَاوِسِ.

ثُمَّ قال تعالى: إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وَهُمَا صِفَتَانِ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَعْنَاهُمَا مُتَقَارِبٌ، وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ الرَّأْفَةُ عِبَارَةً عَنِ السَّعْيِ فِي إِزَالَةِ الضُّرِّ، وَالرَّحْمَةُ عِبَارَةً عَنِ السَّعْيِ فِي إِيصَالِ الْمَنْفَعَةِ. وَقِيلَ: إِحْدَاهُمَا لِلرَّحْمَةِ السَّالِفَةِ، والأخرى للمستقبلة.

<<  <  ج: ص:  >  >>