للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بِهَا أَضْمَرَ خِلَافَهَا؟ قُلْنَا إِنَّهُ لَوْ ضَمَّ إِلَى الْقَوْلِ اعْتِقَادًا لَهُ وَعَمَلًا بِهِ لَأَتَمَّ النُّورَ لِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَتِمَّ نُورُهُ، وَإِنَّمَا سَمَّى مُجَرَّدَ ذَلِكَ الْقَوْلِ نُورًا لِأَنَّهُ قَوْلٌ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ. وَخَامِسُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِيقَادُ النَّارِ عِبَارَةً عَنْ إِظْهَارِ الْمُنَافِقِ كَلِمَةَ الْإِيمَانِ وَإِنَّمَا سَمَّاهُ نُورًا لِأَنَّهُ يَتَزَيَّنُ بِهِ ظَاهِرُهُ فِيهِمْ وَيَصِيرُ مَمْدُوحًا بِسَبَبِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُذْهِبُ ذَلِكَ النُّورَ بِهَتْكِ سِتْرِ الْمُنَافِقِ بِتَعْرِيفِ نَبِيِّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ فَيَظْهَرُ لَهُ اسْمُ النافق بَدَلَ مَا يَظْهَرُ مِنْهُ مِنَ اسْمِ الْإِيمَانِ فَبَقِيَ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُ، إِذِ النُّورُ الَّذِي كَانَ لَهُ قَبْلُ قَدْ كَشَفَ اللَّهُ أَمْرَهُ فَزَالَ.

وَسَادِسُهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا وُصِفُوا بِأَنَّهُمُ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى عَقَّبَ ذَلِكَ بِهَذَا التَّمْثِيلِ لِيُمَثِّلَ هُدَاهُمُ الَّذِي بَاعُوهُ بِالنَّارِ الْمُضِيئَةِ مَا حَوْلَ الْمُسْتَوْقِدِ، وَالضَّلَالَةَ الَّتِي اشْتَرَوْهَا وَطُبِعَ بِهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ بِذَهَابِ اللَّهِ بِنُورِهِمْ وَتَرْكِهِ إِيَّاهُمْ فِي الظُّلُمَاتِ. وَسَابِعُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَوْقِدُ هاهنا مُسْتَوْقِدَ نَارٍ لَا يَرْضَاهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَالْغَرَضُ تَشْبِيهُ الْفِتْنَةِ الَّتِي حَاوَلَ الْمُنَافِقُونَ إِثَارَتَهَا بِهَذِهِ النَّارِ، فَإِنَّ الْفِتْنَةَ الَّتِي كَانُوا يُثِيرُونَهَا كَانَتْ قَلِيلَةَ الْبَقَاءِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:

كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ [الْمَائِدَةِ: ٦٤] وَثَامِنُهَا: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَانْتِظَارِهِمْ لِخُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِفْتَاحِهِمْ بِهِ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَلَمَّا خَرَجَ كَفَرُوا بِهِ فَكَانَ انْتِظَارُهُمْ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَإِيقَادِ النَّارِ، وَكُفْرُهُمْ بِهِ بَعْدَ ظُهُورِهِ كَزَوَالِ ذَلِكَ النُّورِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَأَمَّا تَشْبِيهُ الْإِيمَانِ بِالنُّورِ وَالْكُفْرِ بِالظُّلْمَةِ فَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَثِيرٌ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ النُّورَ قَدْ بَلَغَ النِّهَايَةَ فِي كَوْنِهِ هَادِيًا إِلَى الْمَحَجَّةِ وَإِلَى طَرِيقِ الْمَنْفَعَةِ وَإِزَالَةِ الْحَيْرَةِ وَهَذَا حَالُ الْإِيمَانِ فِي بَابِ الدِّينِ، فَشَبَّهَ مَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي إِزَالَةِ الْحَيْرَةِ وَوِجْدَانِ الْمَنْفَعَةِ فِي بَابِ الدِّينِ بِمَا هُوَ الْغَايَةُ فِي بَابِ الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَشْبِيهِ الْكُفْرِ بِالظُّلْمَةِ، لِأَنَّ الضَّالَّ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُحْتَاجِ إِلَى سُلُوكِهِ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ الْحِرْمَانِ وَالتَّحَيُّرِ أَعْظَمُ مِنَ الظُّلْمَةِ، وَلَا شَيْءَ كَذَلِكَ فِي بَابِ الدِّينِ أَعْظَمُ مِنَ الْكُفْرِ، فَشَبَّهَ تَعَالَى أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْكُلِّيُّ مِنْ هذه الآية، بقيت هاهنا أَسْئِلَةٌ وَأَجْوِبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالتَّعَلُّقِ بِالتَّفَاصِيلِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا يَقْتَضِي تَشْبِيهَ مَثَلِهِمْ بِمَثَلِ الْمُسْتَوْقِدِ، فَمَا مَثَلُ الْمُنَافِقِينَ وَمَثَلُ الْمُسْتَوْقِدِ حَتَّى شَبَّهَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ؟ وَالْجَوَابُ: اسْتُعِيرَ الْمَثَلُ لِلْقِصَّةِ أَوْ لِلصِّفَةِ إِذَا كَانَ لَهَا شَأْنٌ وَفِيهَا غَرَابَةٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ قِصَّتُهُمُ الْعَجِيبَةُ كَقِصَّةِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا، وَكَذَا قَوْلُهُ: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرَّعْدِ: ٣٥] أَيْ فِيمَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنَ الْعَجَائِبِ قِصَّةُ الْجَنَّةِ الْعَجِيبَةِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى [النَّحْلِ: ٦٠] أَيِ الْوَصْفُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالَةِ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ [الْفَتْحِ: ٢٩] أَيْ وَصْفُهُمْ وَشَأْنُهُمُ الْمُتَعَجَّبُ مِنْهُ وَلِمَا فِي الْمَثَلِ مِنْ مَعْنَى الْغَرَابَةِ قَالُوا: فُلَانٌ مَثَلُهُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَاشْتَقُّوا/ مِنْهُ صِفَةً لِلْعَجِيبِ الشَّأْنِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ مُثِّلَتِ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ وَضْعُ «الَّذِي» مَوْضِعَ «الَّذِينَ» كَقَوْلِهِ: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التَّوْبَةِ: ٦٩] وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ «الَّذِي» لِكَوْنِهِ وَصْلَةً إِلَى وَصْفِ كُلِّ مَعْرِفَةٍ مُجْمَلَةٍ وَكَثْرَةِ وُقُوعِهِ فِي كَلَامِهِمْ، وَلِكَوْنِهِ مُسْتَطَالًا بِصِلَتِهِ فَهُوَ حَقِيقٌ بِالتَّخْفِيفِ، وَلِذَلِكَ أَعَلُّوهُ بِالْحَذْفِ فَحَذَفُوا يَاءَهُ ثُمَّ كَسَرْتَهُ ثُمَّ اقْتَصَرُوا فِيهِ عَلَى اللَّامِ وَحْدَهَا فِي أَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ وَالْمَفْعُولِينَ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جِنْسَ الْمُسْتَوْقِدِينَ أَوْ أُرِيدَ الْجَمْعُ أَوِ الْفَوْجُ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا. وَثَالِثُهَا: وَهُوَ الْأَقْوَى: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ وَذَوَاتِهِمْ لَمْ يُشَبَّهُوا بِذَاتِ الْمُسْتَوْقِدِ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْهُ تَشْبِيهُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ وَإِنَّمَا شُبِّهَتْ قِصَّتُهُمْ بِقِصَّةِ الْمُسْتَوْقِدِ.

وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ [الْجُمُعَةِ: ٥] وَقَوْلُهُ: يَنْظُرُونَ