للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْجَوَابُ التَّعْرِيفُ يَحْصُلُ بِمَا أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ حدوث السموات وَالْأَرْضِ فِي مُدَّةٍ، لَوْ حَصَلَ هُنَاكَ أَفْلَاكٌ دَائِرَةٌ وَشَمْسٌ وَقَمَرٌ، لَكَانَتْ تِلْكَ الْمُدَّةُ مُسَاوِيَةً لِسِتَّةِ أَيَّامٍ.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: فَهَذَا يَقْتَضِي حُصُولَ مُدَّةٍ قَبْلَ خَلْقِ الْعَالَمِ، يَحْصُلُ فِيهَا حُدُوثُ الْعَالَمِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ قِدَمَ الْمُدَّةِ.

وَجَوَابُهُ: أَنَّ تِلْكَ الْمُدَّةَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ بَلْ هِيَ مَفْرُوضَةٌ مَوْهُومَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ تِلْكَ الْمُدَّةَ الْمُعَيَّنَةَ حَادِثَةٌ، وَحُدُوثُهَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى مُدَّةٍ أُخْرَى، وَإِلَّا لَزِمَ إِثْبَاتُ أَزْمِنَةٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَكُلُّ مَا يَقُولُونَ فِي حُدُوثِ الْمُدَّةِ فَنَحْنُ نَقُولُهُ فِي حُدُوثِ الْعَالَمِ.

السُّؤَالُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْيَوْمَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْيَوْمُ مَعَ لَيْلَتِهِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ النَّهَارُ وَحْدَهُ فَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَيُّهُمَا.

وَالْجَوَابُ: الْغَالِبُ فِي اللُّغَةِ أَنَّهُ يُرَادُ بِالْيَوْمِ الْيَوْمُ بِلَيْلَتِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا يُوهِمُ كَوْنَهُ تَعَالَى مُسْتَقِرًّا عَلَى الْعَرْشِ وَالْكَلَامُ الْمُسْتَقْصَى فِيهِ مَذْكُورٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ طه، وَلَكِنَّا نكتفي هاهنا بِعِبَارَةٍ وَجِيزَةٍ فَنَقُولُ:

هَذِهِ الْآيَةُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الْعَرْشِ مَعْنَاهُ كَوْنُهُ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ مُسْتَقِرًّا عَلَيْهِ، بِحَيْثُ لَوْلَا الْعَرْشُ لَسَقَطَ وَنَزَلَ، كَمَا أَنَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّ فُلَانًا مُسْتَوٍ عَلَى سَرِيرِهِ فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ هَذَا هَذَا الْمَعْنَى إِلَّا أَنَّ إِثْبَاتَ هَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُحْتَاجًا إِلَى الْعَرْشِ، وَأَنَّهُ لَوْلَا الْعَرْشُ لَسَقَطَ وَنَزَلَ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْمُمْسِكُ لِلْعَرْشِ وَالْحَافِظُ لَهُ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ أَنَّ الْعَرْشَ هُوَ الْمُمْسِكُ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْحَافِظُ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ، / وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَتَغَيَّرُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا كَانَ مُحْدَثًا، وَذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ بَاطِلٌ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا حَدَثَ الِاسْتِوَاءُ فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ مُضْطَرِبًا مُتَحَرِّكًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ. الرَّابِعُ: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ بعد أن خلق السموات وَالْأَرْضَ لِأَنَّ كَلِمَةَ (ثَّمَ) تَقْتَضِي التَّرَاخِيَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ قَبْلَ خَلْقِ الْعَرْشِ غَنِيًّا عَنِ الْعَرْشِ، فَإِذَا خَلَقَ الْعَرْشَ امْتَنَعَ أَنْ تَنْقَلِبَ حَقِيقَتُهُ وَذَاتُهُ مِنْ الِاسْتِغْنَاءِ إِلَى الْحَاجَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى بَعْدَ خَلْقِ الْعَرْشِ غَنِيًّا عَنِ الْعَرْشِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِرًّا عَلَى الْعَرْشِ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا بِالِاتِّفَاقِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا فِي إِثْبَاتِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ لِلَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أن فوق السموات جِسْمًا عَظِيمًا هُوَ الْعَرْشُ.

إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْعَرْشُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ ذَلِكَ الْعَرْشُ أَوْ غَيْرُهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ، أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ ذَلِكَ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أنه لما خلق السموات وَالْأَرْضَ سَطَحَهَا وَرَفَعَ سَمْكَهَا، فَإِنَّ كُلَّ بِنَاءٍ فَإِنَّهُ يُسَمَّى عَرْشًا، وَبَانِيهِ يُسَمَّى عَارِشًا، قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النَّحْلِ: ٦٨] أَيْ يَبْنُونَ، وَقَالَ فِي صِفَةِ الْقَرْيَةِ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها [الْحَجِّ: ٤٥] وَالْمُرَادُ أَنَّ تِلْكَ الْقَرْيَةَ خَلَتْ مِنْهُمْ مَعَ سَلَامَةِ بِنَائِهَا وَقِيَامِ سُقُوفِهَا، وَقَالَ: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ [هُودٍ: ٧] أَيْ بِنَاؤُهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَعْجَبُ فِي الْقُدْرَةِ، فَالْبَانِي

<<  <  ج: ص:  >  >>