للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ فَرِيقَانِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَجِبُ عَقْلًا أَنْ يَكُونَ إِلَهُ الْعَالَمِ رَحِيمًا عَادِلًا مُنَزَّهًا عَنِ الْإِيلَامِ وَالْإِضْرَارِ، إِلَّا لِمَنَافِعَ أَجَلَّ وَأَعْظَمَ مِنْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ وَيَقُولُ: لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ أَصْلًا، بَلْ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. أَمَّا الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ: فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى وُجُودِ الْمَعَادِ مِنْ وُجُوهٍ.

الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ وَأَعْطَاهُمْ عُقُولًا بِهَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ، وَأَعْطَاهُمْ قُدَرًا بِهَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمِنَ الْوَاجِبِ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَدْلِهِ/ أَنْ يَمْنَعَ الْخَلْقَ عَنْ شَتْمِ اللَّهِ وَذِكْرِهِ بِالسُّوءِ، وَأَنْ يَمْنَعَهُمْ عَنِ الْجَهْلِ وَالْكَذِبِ وَإِيذَاءِ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَالصَّالِحِينَ مِنْ خَلْقِهِ وَمِنَ الْوَاجِبِ فِي حِكْمَتِهِ أَنْ يُرَغِّبَهُمْ فِي الطَّاعَاتِ وَالْخَيْرَاتِ وَالْحَسَنَاتِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَمْنَعْ عَنْ تِلْكَ الْقَبَائِحِ، وَلَمْ يُرَغِّبْ فِي هَذِهِ الْخَيْرَاتِ، قَدَحَ ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ مُحْسِنًا عَادِلًا نَاظِرًا لِعِبَادِهِ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ التَّرْغِيبَ فِي الطَّاعَاتِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِرَبْطِ الثَّوَابِ بِفِعْلِهَا، وَالزَّجْرِ عَنِ الْقَبَائِحِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِرَبْطِ الْعِقَابِ بِفِعْلِهَا، وَذَلِكَ الثَّوَابُ الْمُرَغَّبُ فِيهِ، وَالْعِقَابُ الْمُهَدَّدُ بِهِ غَيْرُ حَاصِلٍ فِي دَارِ الدُّنْيَا فَلَا بُدَّ مِنْ دَارٍ أُخْرَى يَحْصُلُ فِيهَا هَذَا الثَّوَابُ، وَهَذَا الْعِقَابُ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِلَّا لَزِمَ كَوْنُهُ كَاذِبًا، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ.

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَكْفِي فِي التَّرْغِيبِ فِي فِعْلِ الْخَيْرَاتِ، وَفِي الرَّدْعِ عَنِ الْمُنْكَرَاتِ مَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِي الْعُقُولِ مَنْ تَحْسِينِ الْخَيْرَاتِ وَتَقْبِيحِ الْمُنْكَرَاتِ وَلَا حَاجَةَ مَعَ ذَلِكَ إِلَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ؟ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْغَرَضُ مِنْهُ مُجَرَّدُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ لِيَحْصُلَ بِهِ نِظَامُ الْعَالَمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ [الزُّمَرِ: ١٦] فَإِمَّا أَنْ يَفْعَلَ تَعَالَى ذَلِكَ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؟

قَوْلُهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَصَارَ كَلَامُهُ كَذِبًا فَنَقُولُ: أَلَسْتُمْ تُخَصِّصُونَ أَكْثَرَ عُمُومَاتِ الْقُرْآنِ لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ التَّخْصِيصِ فَإِنْ كَانَ هَذَا كَذِبًا وَجَبَ فِيمَا تَحْكُمُونَ بِهِ مِنْ تِلْكَ التَّخْصِيصَاتِ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا؟ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَفْعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ عِبَارَةٌ عَمَّا يَصِلُ إِلَى الْإِنْسَانِ مِنْ أَنْوَاعِ الرَّاحَاتِ وَاللَّذَّاتِ وَمِنْ أَنْوَاعِ الْآلَامِ وَالْأَسْقَامِ، وَأَقْسَامِ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ؟

وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْعَقْلَ وَإِنْ كَانَ يَدْعُوهُ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَتَرْكِ الشَّرِّ إلا أن الهوى والنفس يدعو إنه إِلَى الِانْهِمَاكِ فِي الشَّهَوَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَاللَّذَّاتِ الْجَسَدَانِيَّةِ، وَإِذَا حَصَلَ هَذَا التَّعَارُضُ فَلَا بُدَّ مِنْ مُرَجِّحٍ قَوِيٍّ وَمُعَاضِدٍ كَامِلٍ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا تَرْتِيبَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ.

وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا جَوَّزَ الْإِنْسَانُ حُصُولَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَحِينَئِذٍ لَا يَحْصُلُ مِنَ الْوَعْدِ رَغْبَةٌ، وَلَا مِنَ الْوَعِيدِ رَهْبَةٌ، لِأَنَّ السَّامِعَ يُجَوِّزُ كَوْنَهُ كَذِبًا.

وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّالِثِ: أَنَّ الْعَبْدَ مَا دَامَتْ حَيَاتُهُ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَالْأَجِيرِ الْمُشْتَغِلِ بِالْعَمَلِ وَالْأَجِيرُ حَالَ اشْتِغَالِهِ بِالْعَمَلِ لَا يَجُوزُ دَفْعُ الْأُجْرَةِ بِكَمَالِهَا إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِذَا أَخَذَهَا فَإِنَّهُ لَا يَجْتَهِدُ فِي الْعَمَلِ وَأَمَّا إِذَا كَانَ مَحَلُّ أَخْذِ الْأُجْرَةِ هُوَ الدَّارَ الْآخِرَةَ كَانَ الِاجْتِهَادُ فِي الْعَمَلِ أَشَدَّ وَأَكْمَلَ، وَأَيْضًا نَرَى/ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَنَّ أَزْهَدَ النَّاسِ وَأَعْلَمَهُمْ مُبْتَلًى بِأَنْوَاعِ الْغُمُومِ وَالْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ، وَأَجْهَلَهُمْ وَأَفْسَقَهُمْ فِي اللَّذَّاتِ وَالْمَسَرَّاتِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ دَارَ الْجَزَاءِ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الدَّارَ فَلَا بُدَّ مِنْ دَارٍ أُخْرَى، وَمِنْ حَيَاةٍ أُخْرَى، لِيَحْصُلَ فِيهَا الْجَزَاءُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>