للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يَكُونُ أَبَدًا فِي التَّرَقِّي، بِدَلِيلِ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، انْتَقَلَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ كَانَتْ فِي حِكَايَةِ أَحْوَالِهِمْ، وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَاتُ فَإِنَّهَا أَمْرٌ وَتَكْلِيفٌ، فَفِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ رَاحَةٍ تُقَابِلُ هَذِهِ الْكُلْفَةَ، وَتِلْكَ الرَّاحَةُ هِيَ أَنْ يَرْفَعَ مَلِكُ الْمُلُوكِ الْوَاسِطَةَ مِنَ الْبَيْنِ وَيُخَاطِبَهُمْ بِذَاتِهِ، كَمَا أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أُلْزِمَ تَكْلِيفًا شَاقًّا فَلَوْ شَافَهَهُ الْمَوْلَى وَقَالَ: أُرِيدُ مِنْكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا فَإِنَّهُ يَصِيرُ ذَلِكَ الشَّاقُّ لَذِيذًا لِأَجْلِ ذَلِكَ الْخِطَابِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حُكِيَ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ في القرآن: يا أَيُّهَا النَّاسُ فإنه مكي، وما كان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَبِالْمَدِينَةِ، قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ إِنْ كَانَ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى النَّقْلِ فَمُسَلَّمٌ، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ فِيهِ حُصُولَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمَدِينَةِ عَلَى الْكَثْرَةِ دُونَ مَكَّةَ/ فَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُخَاطِبَ الْمُؤْمِنِينَ مَرَّةً بِصِفَتِهِمْ، وَمَرَّةً بِاسْمِ جِنْسِهِمْ، وَقَدْ يُؤْمَرُ مَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ بِالْعِبَادَةِ، كَمَا يُؤْمَرُ الْمُؤْمِنُ بِالِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالِازْدِيَادِ مِنْهَا، فَالْخِطَابُ فِي الْجَمِيعِ مُمْكِنٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَلْفَاظَ فِي الْأَغْلَبِ عِبَارَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى أُمُورٍ هِيَ: إِمَّا الْأَلْفَاظُ أَوْ غَيْرُهَا، أَمَّا الْأَلْفَاظُ فَهِيَ: كَالِاسْمِ وَالْفِعْلِ وَالْحَرْفِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الثَّلَاثَةَ يَدُلُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ، هُوَ فِي نَفْسِهِ لَفْظٌ مَخْصُوصٌ، وَغَيْرُ الْأَلْفَاظِ: فَكَالْحَجَرِ وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَلَفْظُ النِّدَاءِ لَمْ يُجْعَلْ دَلِيلًا عَلَى شَيْءٍ آخَرَ، بَلْ هُوَ لَفْظٌ يَجْرِي مَجْرَى عَمَلٍ يَعْمَلُهُ عَامِلٌ لِأَجْلِ التَّنْبِيهِ. فَأَمَّا الَّذِينَ فَسَّرُوا قَوْلَنَا: «يَا زَيْدُ» بِأُنَادِي زَيْدًا، أَوْ أُخَاطِبُ زَيْدًا فَهُوَ خَطَأٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَنَا. أُنَادِي زَيْدًا، خَبَرٌ يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ، وَقَوْلُنَا يَا زَيْدُ، لَا يَحْتَمِلُهَا. وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَنَا يَا زَيْدُ، يَقْتَضِي صَيْرُورَةَ زَيْدٍ مُنَادًى فِي الْحَالِ، وَقَوْلُنَا أُنَادِي زَيْدًا، لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَنَا يَا زَيْدُ يَقْتَضِي صَيْرُورَةَ زَيْدٍ مُخَاطَبًا بِهَذَا الْخِطَابِ وَقَوْلُنَا أُنَادِي زَيْدًا لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنَّهُ يُخْبِرُ إِنْسَانًا آخَرَ بِأَنِّي أُنَادِي زَيْدًا. وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَنَا أُنَادِي زَيْدًا، إِخْبَارٌ عَنِ النِّدَاءِ، وَالْإِخْبَارُ عَنِ النِّدَاءِ غَيْرُ النِّدَاءِ، وَالنِّدَاءُ هُوَ قَوْلُنَا: يَا زَيْدُ، فَإِذَنْ قَوْلُنَا: أُنَادِي زَيْدًا، غَيْرُ قَوْلِنَا يَا زَيْدُ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الوجوه فساد هذا القول. ثم هاهنا نُكْتَةٌ نَذْكُرُهَا وَهِيَ: أَنَّ أَقْوَى الْمَرَاتِبِ الِاسْمُ، وَأَضْعَفَهَا الْحَرْفُ، فَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّهُ لَا يَأْتَلِفُ الِاسْمُ بِالْحَرْفِ، وَكَذَا أَعْظَمُ الْمَوْجُودَاتِ هُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَضْعَفُهَا الْبَشَرُ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النِّسَاءِ: ٢٨] فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: أَيُّ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [الْبَقَرَةِ: ٣٠] فَقِيلَ قَدْ يَأْتَلِفُ الِاسْمُ مَعَ الْحَرْفِ فِي حَالِ النِّدَاءِ، فَكَذَا الْبَشَرُ يَصْلُحُ لِخِدْمَةِ الرَّبِّ حَالَ النِّدَاءِ وَالتَّضَرُّعِ رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: ٢٣] وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: ٦٠] .

المسألة الرابعة: «ياء» حَرْفٌ وُضِعَ فِي أَصْلِهِ لِنِدَاءِ الْبَعِيدِ وَإِنْ كَانَ لِنِدَاءِ الْقَرِيبِ لَكِنْ لِسَبَبِ أَمْرٍ مُهِمٍّ جِدًّا، وَأَمَّا نِدَاءُ الْقَرِيبِ فَلَهُ: أَيْ وَالْهَمْزَةُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي نِدَاءِ مَنْ سَهَا وَغَفَلَ وَإِنَ قَرُبَ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْبَعِيدِ. فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ يَقُولُ الدَّاعِي يَا رَبِّ يَا أَللَّهُ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ قُلْنَا هُوَ اسْتِبْعَادٌ لِنَفْسِهِ مِنْ مَظَانِّ الزُّلْفَى وَمَا يُقَرِّبُهُ إِلَى مَنَازِلِ الْمُقَرَّبِينَ هَضْمًا لِنَفْسِهِ وَإِقْرَارًا عَلَيْهَا بِالتَّنْقِيصِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْإِجَابَةَ بِمُقْتَضَى

قَوْلِهِ: «أَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَجْلِي»

أَوْ لِأَجْلِ أَنَّ إِجَابَةَ الدُّعَاءِ مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ لِلدَّاعِي.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: «أَيْ» وَصْلَةٌ إِلَى نِدَاءِ مَا فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ كَمَا أَنَّ «ذُو» وَ «الَّذِي» وَصْلَتَانِ إِلَى الْوَصْفِ بِأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ وَوَصْفِ الْمَعَارِفِ بِالْجُمَلِ، وَهُوَ اسْمٌ مُبْهَمٌ يَفْتَقِرُ إِلَى مَا يُزِيلُ إِبْهَامَهُ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُرْدِفَهُ اسْمَ جِنْسٍ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ يَتَّصِفُ بِهِ حَتَّى يَحْصُلَ الْمَقْصُودُ بِالنِّدَاءِ فَالَّذِي يَعْمَلُ فِيهِ حَرْفُ النِّدَاءِ هُوَ أَيْ والاسم