للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِيهِ، وَعَلَى تَقْبِيحِ صُورَتِهِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ أَتَى بِتِلْكَ الْأَقَاصِيصِ مُطَابِقَةً لِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، مَعَ أَنَّهُ مَا طَالَعَهُمَا وَلَا تُلْمِذَ لِأَحَدٍ فِيهِمَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِوَحْيٍ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى.

الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ كُتُبَ اللَّه الْمُنَزَّلَةَ دَلَّتْ عَلَى مَقْدَمِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى مَا اسْتَقْصَيْنَا فِي تَقْرِيرِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٤٠] وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ/ كَانَ مَجِيءُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَصْدِيقًا لِمَا فِي تِلْكَ الْكُتُبِ، مِنَ الْبِشَارَةِ بِمَجِيئِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ هَذَا عِبَارَةً عَنْ تَصْدِيقِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ.

الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَرَ فِي الْقُرْآنِ عَنِ الْغُيُوبِ الْكَثِيرَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَوَقَعَتْ مُطَابِقَةً لِذَلِكَ الْخَبَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ [الرُّومِ: ١، ٢] الْآيَةَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ [الْفَتْحِ: ٢٧] وَكَقَوْلِهِ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النُّورِ: ٥٥] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ هَذِهِ الْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، إِنَّمَا حَصَلَ بِالْوَحْيِ مِنَ اللَّه تَعَالَى، فَكَانَ ذَلِكَ عِبَارَةً عَنْ تَصْدِيقِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، فَالْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ: إِخْبَارٌ عَنِ الْغُيُوبِ الْمَاضِيَةِ وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِخْبَارٌ عَنِ الْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَمَجْمُوعُهَا عِبَارَةٌ عَنْ تَصْدِيقِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ.

النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هذه الآية قوله تعالى: وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ مِنْ أَيِّ الْوُجُوهِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ مُعْجِزٌ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ الْمَاضِيَةِ وَالْمُسْتَقْبَلَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:

إِنَّهُ مُعْجِزٌ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْعُلُومَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ دِينِيَّةً أَوْ لَيْسَتْ دِينِيَّةً، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ أَرْفَعُ حَالًا وَأَعْظَمُ شَأْنًا وَأَكْمَلُ دَرَجَةً مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي. وَأَمَّا الْعُلُومُ الدِّينِيَّةُ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ عِلْمَ الْعَقَائِدِ وَالْأَدْيَانِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ عِلْمَ الْأَعْمَالِ. أَمَّا عِلْمُ الْعَقَائِدِ وَالْأَدْيَانِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. أَمَّا مَعْرِفَةُ اللَّه تَعَالَى، فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ ذَاتِهِ وَمَعْرِفَةِ صِفَاتِ جَلَالِهِ، وَمَعْرِفَةِ صِفَاتِ إِكْرَامِهِ، وَمَعْرِفَةِ أَفْعَالِهِ، وَمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهِ، وَمَعْرِفَةِ أَسْمَائِهِ وَالْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى دَلَائِلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَتَفَارِيعِهَا وَتَفَاصِيلِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُسَاوِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْكُتُبِ، بَلْ لَا يَقْرُبُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ. وَأَمَّا عِلْمُ الْأَعْمَالِ فَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ عِلْمِ التَّكَالِيفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالظَّوَاهِرِ وَهُوَ عِلْمُ الْفِقْهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَمِيعَ الْفُقَهَاءِ إِنَّمَا اسْتَنْبَطُوا مَبَاحِثَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عِلْمًا بِتَصْفِيَةِ الْبَاطِنِ أَوْ رِيَاضَةِ الْقُلُوبِ. وَقَدْ حَصَلَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ مَبَاحِثِ هَذَا الْعِلْمِ مَا لَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الْأَعْرَافِ: ١٩٩] وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النمل: ٩٠] فَثَبَتَ أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى تَفَاصِيلِ جَمِيعِ الْعُلُومِ الشَّرِيفَةِ، عَقْلِيِّهَا وَنَقْلِيِّهَا، اشْتِمَالًا يَمْتَنِعُ حُصُولُهُ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ فَكَانَ ذَلِكَ مُعْجِزًا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ:

وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ.

أَمَّا قَوْلُهُ: لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ فَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْكِتَابَ الطَّوِيلَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى هَذِهِ/ الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى نَوْعٍ مِنْ أنواع التناقض، وحيث خلي هَذَا الْكِتَابُ عَنْهُ، عَلِمْنَا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّه بوحيه وَتَنْزِيلِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: ٨٢] .

<<  <  ج: ص:  >  >>