الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَسْتَفِيدُ الْعِلْمَ بِالتَّعَلُّمِ مِنَ الْأُسْتَاذِ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِقُوَّةِ السَّمْعِ، فَاسْتِكْمَالُ النَّفْسِ بِالْكَمَالَاتِ الْعِلْمِيَّةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِقُوَّةِ السَّمْعِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قُوَّةِ الْبَصَرِ، فَكَانَ السَّمْعُ أَفْضَلَ مِنَ الْبَصَرِ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:
٣٧] وَالْمُرَادُ مِنَ القلب هاهنا الْعَقْلُ، فَجَعَلَ السَّمْعَ قَرِينًا لِلْعَقْلِ وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ [الْمَلِكِ: ١٠] فَجَعَلُوا السَّمْعَ سَبَبًا لِلْخَلَاصِ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ.
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ هُوَ النُّطْقُ وَالْكَلَامُ وإنما ينتفع بذلك القوة السَّامِعَةِ، فَمُتَعَلِّقُ السَّمْعِ النُّطْقُ الَّذِي بِهِ حَصَلَ شَرَفُ الْإِنْسَانِ، وَمُتَعَلِّقُ الْبَصَرِ إِدْرَاكُ الْأَلْوَانِ وَالْأَشْكَالِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ السَّمْعُ أَفْضَلَ مِنَ الْبَصَرِ.
الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَرَاهُمُ النَّاسُ وَيَسْمَعُونَ كَلَامَهُمْ، فَنُبُوَّتُهُمْ مَا حَصَلَتْ بِسَبَبِ مَا مَعَهُمْ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَرْئِيَّةِ، وَإِنَّمَا حَصَلَتْ بِسَبَبِ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْأَصْوَاتِ الْمَسْمُوعَةِ وَهُوَ الْكَلَامُ وَتَبْلِيغُ الشَّرَائِعِ وَبَيَانُ الْأَحْكَامِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَسْمُوعُ أَفْضَلَ مِنَ الْمَرْئِيِّ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ السَّمْعُ أَفْضَلَ مِنَ الْبَصَرِ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا تَمَسَّكَ بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ السَّمْعَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَصَرِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْبَصَرُ أَفْضَلُ مِنَ السَّمْعِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْمَثَلِ الْمَشْهُورِ لَيْسَ وَرَاءَ الْعِيَانِ بَيَانٌ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَكْمَلَ وُجُوهِ الْإِدْرَاكَاتِ هُوَ الْإِبْصَارُ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ آلَةَ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ هُوَ النُّورُ وَآلَةَ الْقُوَّةِ السَّامِعَةِ هِيَ الْهَوَاءُ وَالنُّورُ أَشْرَفُ مِنَ الْهَوَاءِ فَالْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ أَشْرَفُ مِنَ الْقُوَّةِ السَّامِعَةِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ عَجَائِبَ حِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى فِي تَخْلِيقِ الْعَيْنِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْإِبْصَارِ أَكْثَرُ مِنْ عَجَائِبِ خِلْقَتِهِ فِي الْأُذُنِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ السَّمَاعِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ تَمَامَ رُوحٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَرْوَاحِ السَّبْعَةِ الدِّمَاغِيَّةِ مِنَ الْعَصَبِ آلَةً لِلْإِبْصَارِ، وَرَكَّبَ الْعَيْنَ مِنْ سَبْعِ طَبَقَاتٍ وَثَلَاثِ رُطُوبَاتٍ وَخَلَقَ لِتَحْرِيكَاتِ العين عضلات كثيرة على صور مُخْتَلِفَةٍ وَالْأُذُنُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَكَثْرَةُ الْعِنَايَةِ فِي تَخْلِيقِ الشَّيْءِ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الْبَصَرَ يَرَى مَا حَصَلَ فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتٍ وَالسَّمْعَ لَا يُدْرِكُ مَا بَعُدَ مِنْهُ عَلَى فَرْسَخٍ، فَكَانَ الْبَصَرُ أَقْوَى وَأَفْضَلَ وَبِهَذَا الْبَيَانِ يُدْفَعُ قَوْلُهُمْ إِنَّ السَّمْعَ يُدْرِكُ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ وَالْبَصَرَ لَا يُدْرِكُ إِلَّا مِنَ الْجَانِبِ الْوَاحِدِ.
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ سَمِعَ كَلَامَ اللَّه فِي الدُّنْيَا، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ رَآهُ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا أَمْ لَا؟ وَأَيْضًا فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَمِعَ كَلَامَهُ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ سُؤَالٍ وَالْتِمَاسٍ وَلَمَّا سَأَلَ الرُّؤْيَةَ قَالَ: لَنْ تَرانِي [الْأَعْرَافِ: ١٤٣] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَالَ الرُّؤْيَةِ أَعْلَى مِنْ حَالِ السَّمَاعِ.
الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: كَيْفَ يَكُونُ السَّمْعُ أَفْضَلَ مِنَ الْبَصَرِ وَبِالْبَصَرِ يَحْصُلُ جَمَالُ الْوَجْهِ، وَبِذَهَابِهِ عَيْبُهُ، وَذَهَابُ السَّمْعِ لَا يُورِثُ الْإِنْسَانَ عيبا، العرب تُسَمِّي الْعَيْنَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ وَلَا تَصِفُ السَّمْعَ بِمِثْلِ هَذَا؟ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ يَقُولُ اللَّه تَعَالَى: (مَنْ أَذْهَبْتُ كَرِيمَتَهُ فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ لَمْ أَرْضَ لَهُ ثَوَابًا دُونَ الْجَنَّةِ) .