اعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ: مَنْ قَالَ: أَنَّ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ [يونس: ٥٤] فَلَا جَرَمَ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ لِلظَّالِمِ شَيْءٌ يَفْتَدِي بِهِ، فَإِنَّ كُلَّ الْأَشْيَاءِ مُلْكُ اللَّه تَعَالَى وَمِلْكُهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّوْجِيهَ حَسَنٌ، أَمَّا الْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ النَّاسَ عَلَى طَبَقَاتٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ انْتِفَاعُهُ بِالْإِقْنَاعِيَّاتِ أَكْثَرَ مِنَ انْتِفَاعِهِ بِالْبُرْهَانِيَّاتِ، أَمَّا الْمُحَقِّقُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى الْإِقْنَاعِيَّاتِ، وَإِنَّمَا تَعْوِيلُهُمْ عَلَى الدَّلَائِلِ الْبَيِّنَةِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ، فَلَمَّا حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا أَحَقٌّ هُوَ؟ أَمَرَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السلام بأن يقول: إِي وَرَبِّي [يونس: ٥٣] وَهَذَا جَارٍ مَجْرَى الْإِقْنَاعِيَّاتِ، فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِمَا هُوَ الْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ/ عَلَى صِحَّتِهِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالنُّبُوَّةِ وَالْقَوْلَ بِصِحَّةِ الْمَعَادِ يَتَفَرَّعَانِ عَلَى إِثْبَاتِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مُلْكُهُ وَمِلْكُهُ، فَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَذْكُرِ الدَّلِيلَ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدِ اسْتَقْصَى فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ فِيمَا سَبَقَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [يُونُسَ: ٦] وَقَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ [يُونُسَ: ٥] فَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذِهِ الدَّلَائِلِ الْقَاهِرَةِ اكْتَفَى بِذِكْرِهَا، وَذَكَرَ أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ مِنْ نَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ وَجَسَدٍ وَرُوحٍ وَظُلْمَةٍ وَنُورٍ فَهُوَ مُلْكُهُ وَمِلْكُهُ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، كَانَ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ غَنِيًّا عَنْ جَمِيعِ الْحَاجَاتِ، مُنَزَّهًا عَنِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ، فَهُوَ تَعَالَى لِكَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى إِنْزَالِ الْعَذَابِ عَلَى الْأَعْدَاءِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيَكُونُ قَادِرًا عَلَى إِيصَالِ الرَّحْمَةِ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيَكُونُ قَادِرًا عَلَى تَأْيِيدِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ وَالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ وَيَكُونُ قَادِرًا عَلَى إِعْلَاءِ شَأْنِ رَسُولِهِ وَإِظْهَارِ دِينِهِ وَتَقْوِيَةِ شَرْعِهِ، وَلَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى كُلِّ ذَلِكَ فَقَدْ بَطُلَ الِاسْتِهْزَاءُ وَالتَّعَجُّبُ وَلَمَّا كَانَ مُنَزَّهًا عَنِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ، كَانَ مُنَزَّهًا عَنِ الْخُلْفِ وَالْكَذِبِ وَكُلُّ مَا وَعَدَ بِهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَقَعَ، هَذَا إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى لَا يُرَاعِي مَصَالِحَ الْعِبَادِ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى يُرَاعِيهَا فَنَقُولُ: الْكَذِبُ إِنَّمَا يَصْدُرُ عَنِ الْعَاقِلِ، إِمَّا لِلْعَجْزِ أَوْ لِلْجَهْلِ أَوْ لِلْحَاجَةِ، وَلَمَّا كَانَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهًا عَنِ الْكُلِّ كَانَ الْكَذِبُ عَلَيْهِ مُحَالًا، فَلَمَّا أَخْبَرَ عَنْ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، وَبِحُصُولِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَجَبَ الْقَطْعُ بِوُقُوعِهِ، فَثَبَتَ بِهَذَا الْبَيَانِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُقَدِّمَةٌ تُوجِبُ الْجَزْمَ بِصِحَّةِ قَوْلِهِ: أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ثُمَّ قَالَ:
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَنْ هَذِهِ الدَّلَائِلِ، مَغْرُورُونَ بِظَوَاهِرِ الْأُمُورِ، فَلَا جَرَمَ بَقُوا مَحْرُومِينَ عَنْ هَذِهِ الْمَعَارِفِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَكَّدَ هَذِهِ الدَّلَائِلَ فَقَالَ: هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَمَّا قَدَرَ عَلَى الْإِحْيَاءِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَإِذَا أَمَاتَهُ وَجَبَ أَنْ يَبْقَى قَادِرًا عَلَى إِحْيَائِهِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ يَقُولَ: إِي وَرَبِّي [يُونُسَ: ٥٣] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَتْبَعَ ذَلِكَ الْكَلَامَ بِذِكْرِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ الْقَاهِرَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ دَقِيقَةً أُخْرَى وَهِيَ كَلِمَةُ أَلا وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ إِنَّمَا تُذْكَرُ عِنْدَ تَنْبِيهِ الْغَافِلِينَ وَإِيقَاظِ النَّائِمِينَ وَأَهْلُ هَذَا الْعَالَمِ مَشْغُولُونَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ فَيَقُولُونَ الْبُسْتَانُ لِلْأَمِيرِ وَالدَّارُ لِلْوَزِيرِ وَالْغُلَامُ لِزَيْدٍ وَالْجَارِيَةُ لِعَمْرٍو فَيُضِيفُونَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى مَالِكٍ آخَرَ والخلق
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute