للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْمَعْبُودِ أَوْ إِلَى الْعَابِدِ أَمَّا إِلَى الْمَعْبُودِ فَمُحَالٌ لِأَنَّهُ كَامِلٌ لِذَاتِهِ، وَالْكَامِلُ لِذَاتِهِ لَا يَكُونُ كَامِلًا بِغَيْرِهِ، وَلِأَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْإِلَهَ الْعَالِيَ عَلَى الدَّهْرِ وَالزَّمَانِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِرُكُوعِ الْعَبْدِ وَسُجُودِهِ، وَأَمَّا إِلَى الْعَابِدِ فَمُحَالٌ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْفَوَائِدِ مَحْصُورَةٌ فِي حُصُولِ اللَّذَّةِ وَدَفْعِ الْأَلَمِ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِ كُلِّ ذَلِكَ لِلْعَبْدِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِ هَذِهِ الْمَشَاقِّ فَيَكُونُ تَوَسُّطُهَا عَبَثًا، وَالْعَبَثُ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى الْحَكِيمِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُوجِدٍ لِأَفْعَالِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِتَفَاصِيلِهَا وَمَنْ لَا يَعْلَمُ تَفَاصِيلَ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ مُوجِدًا لَهُ وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ مُوجِدًا لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ فَإِنَّ أَمْرَهُ بِذَلِكَ الْفِعْلِ حَالَ مَا خَلَقَهُ فِيهِ فَقَدْ أَمَرَهُ بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَإِنْ أَمَرَهُ بِهِ حَالَ مَا لَمْ يَخْلُقْهُ فِيهِ فَقَدْ أَمَرَهُ بِالْمُحَالِ وَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّكْلِيفِ إِنَّمَا هُوَ تَطْهِيرُ الْقَلْبِ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ ظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ فَلَوْ قَدَّرْنَا إِنْسَانًا مُشْتَغِلَ الْقَلْبِ دَائِمًا بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِحَيْثُ لَوِ اشْتَغَلَ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ لَصَارَ ذَلِكَ عَائِقًا لَهُ عَنِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ هَذِهِ التَّكَالِيفُ الظَّاهِرَةُ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ وَالْقِيَاسِيِّينَ قَالُوا إِذَا لَاحَ الْمَقْصُودُ وَالْحِكْمَةُ فِي التَّكَالِيفِ وَجَبَ اتِّبَاعُ الْأَحْكَامِ الْمَعْقُولَةِ لَا اتِّبَاعُ الظواهر.

والجواب: عن الشبه الثلاثة الأول مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الشُّبَهِ أَوْجَبُوا بِمَا ذَكَرُوهُ اعْتِقَادَ عَدَمِ التَّكَالِيفِ فَهَذَا تَكْلِيفٌ يَنْفِي التَّكْلِيفَ وَأَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ. الثَّانِي: أَنَّ عِنْدَنَا يَحْسُنُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كُلُّ شَيْءٍ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ أَوْ غَيْرَهُ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَالِقٌ مَالِكٌ، وَالْمَالِكُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي فِعْلِهِ. الْبَحْثُ السَّادِسُ:

قَالُوا: الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ وَإِنْ كَانَ عَامًّا لِكُلِّ النَّاسِ لَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَفْهَمُ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْغَافِلِ وَالنَّاسِي، وَفِي حَقِّ مَنْ لَا يَقْدِرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الْبَقَرَةِ: ٢٣٣] .

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي حَقِّ الْعَبِيدِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ طَاعَةَ مَوَالِيهِمْ، وَاشْتِغَالُهُمْ بِطَاعَةِ الْمَوَالِي يَمْنَعُهُمْ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالْعِبَادَةِ، وَالْأَمْرُ الدَّالُّ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ الْمَوْلَى/ أَخَصُّ مِنَ الْأَمْرِ الدَّالِّ عَلَى وُجُوبِ الْعِبَادَةِ وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَذْكُورٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ الْقَاضِي: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُودِ الْعِبَادَةِ مَا بَيَّنَهُ مِنْ خَلْقِهِ لَنَا وَالْإِنْعَامِ عَلَيْنَا.

وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا يَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَحِقُّ بِفِعْلِهِ الثَّوَابَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ خَلْقُهُ إِيَّانَا وَإِنْعَامُهُ عَلَيْنَا سَبَبًا لِوُجُوبِ الْعِبَادَةِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ اشْتِغَالُنَا بِالْعِبَادَةِ أَدَاءً لِلْوَاجِبِ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَسْتَحِقُّ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ شَيْئًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ الْعَبْدُ عَلَى الْعِبَادَةِ ثَوَابًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَمَّا قَوْلُهُ: رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَمَرَ بِعِبَادَةِ الرَّبِّ أَرْدَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَهُوَ خَلْقُ الْمُكَلَّفِينَ وَخَلْقُ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَطَعَنَ قَوْمٌ مِنَ الْحَشْوِيَّةِ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَقَالُوا الِاشْتِغَالُ بِهَذَا الْعِلْمِ بِدْعَةٌ وَلَنَا في إثبات مذهبنا وجوه نقلية وعقلية وهاهنا ثَلَاثُ مَقَامَاتٍ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ فَضْلِ هَذَا الْعِلْمِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ شَرَفَ الْعِلْمِ بِشَرَفِ الْمَعْلُومِ فَمَهْمَا كَانَ الْمَعْلُومُ أَشْرَفَ كَانَ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ بِهِ أَشْرَفَ فَلَمَّا كَانَ أَشْرَفَ الْمَعْلُومَاتِ ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ أَشْرَفَ الْعُلُومِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعِلْمَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ دِينِيًّا أَوْ غَيْرَ دِينِيٍّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِلْمَ الدِّينِيَّ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِ الدِّينِيِّ، وَأَمَّا الْعِلْمُ الدِّينِيُّ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ عِلْمَ الْأُصُولِ، أَوْ مَا عَدَاهُ، أَمَّا مَا عَدَاهُ فَإِنَّهُ تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى عِلْمِ الْأُصُولِ، لِأَنَّ الْمُفَسِّرَ إِنَّمَا يَبْحَثُ عَنْ مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ فَرْعٌ عَلَى وُجُودِ