عَلَى إِيذَائِي وَأَنَا لَا أُقَابِلُ ذَلِكَ الشَّرَّ إِلَّا بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّه.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَبَدًا مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّه تَعَالَى، وَهَذَا اللَّفْظُ يُوهِمُ أَنَّهُ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّه فِي هَذِهِ السَّاعَةِ، لَكِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ إِنَّمَا تَوَكَّلَ عَلَى اللَّه فِي دَفْعِ هَذَا الشَّرِّ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ إِنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ هُوَ قَوْلُهُ: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ وَقَوْلُهُ:
فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ كَلَامٌ اعْتُرِضَ بِهِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ كَمَا تَقُولُ فِي الْكَلَامِ إِنْ كُنْتَ أَنْكَرْتَ عَلَيَّ شَيْئًا فاللَّه حَسْبِي فَاعْمَلْ مَا تُرِيدُ وَاعْلَمْ أَنَّ جَوَابَ هَذَا الشَّرْطِ مُشْتَمِلٌ عَلَى قُيُودٍ خَمْسَةٍ عَلَى التَّرْتِيبِ.
الْقَيْدُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْإِجْمَاعُ الْإِعْدَادُ وَالْعَزِيمَةُ عَلَى الْأَمْرِ وَأَنْشَدَ:
يَا لَيْتَ شِعْرِي وَالْمُنَى لَا يَنْفَعُ ... هَلْ أَغْدُوَنْ يَوْمًا وَأَمْرِي مُجْمَعُ
فَإِذَا أَرَدْتَ جَمْعَ التَّفَرُّقِ قُلْتَ: جَمَعْتُ الْقَوْمَ فَهُمْ مَجْمُوعُونَ، وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: أَجْمَعَ أَمْرَهُ، أَيْ جَعَلَهَ جَمِيعًا بَعْدَ مَا كَانَ مُتَفَرِّقًا، قَالَ: وَتَفَرَّقَهُ، أَيْ جَعَلَ يَتَدَبَّرُهُ فَيَقُولُ: مَرَّةً أَفْعَلُ كَذَا وَمَرَّةً أَفْعَلُ كَذَا فَلَمَّا عَزَمَ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ فَقَدْ جَمَعَهُ، أَيْ جَعَلَهُ جَمِيعًا فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْإِجْمَاعِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ [يُوسُفَ: ١٠٢] ثُمَّ صَارَ بِمَعْنَى الْعَزْمِ حَتَّى وُصِلَ بِعَلَى فَقِيلَ: أَجْمَعْتُ عَلَى الْأَمْرِ، أَيْ عَزَمْتُ عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ أَجْمَعْتُ الْأَمْرَ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: رَوَى الْأَصْمَعِيُّ عَنْ نَافِعٍ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ بِوَصْلِ الْأَلِفِ مِنَ الْجَمْعِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ:
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: فَاجْمَعُوا ذَوِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَحُذِفَ الْمُضَافُ، وَجَرَى عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَا كَانَ يَجْرِي عَلَى الْمُضَافِ لَوْ ثَبَتَ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْمُرَادُ مِنَ الأمر هاهنا وُجُوهُ كَيْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ، فَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَدَعُوا مِنْ أَمْرِكُمْ شَيْئًا إِلَّا أَحْضَرْتُمُوهُ.
وَالْقَيْدُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَشُرَكاءَكُمْ وفيه أبحاث:
البحث الأول: الواو هاهنا بِمَعْنَى مَعَ، وَالْمَعْنَى: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ مَعَ شُرَكَائِكُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ لَوْ تُرِكَتِ النَّاقَةُ وَفَصِيلَهَا لَرَضَعَهَا، وَلَوْ خَلَّيْتَ نَفْسَكَ وَالْأَسَدَ لَأَكَلَكَ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الشُّرَكَاءِ الْأَوْثَانَ الَّتِي سَمَّوْهَا بِالْآلِهَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ قَوْلِهِمْ وَدِينِهِمْ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْأَوَّلُ فَإِنَّمَا حَثَّ الْكُفَّارَ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالْأَوْثَانِ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِمْ مِنْ أَنَّهَا تَضُرُّ وَتَنْفَعُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الثَّانِيَ فَوَجْهُ الِاسْتِعَانَةِ بِهَا ظَاهِرٌ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَرَأَ الْحَسَنُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْقُرَّاءِ وَشُرَكَاؤُكُمْ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ/ الْمَرْفُوعِ، وَالتَّقْدِيرُ:
فَأَجْمِعُوا أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَجَازَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَأْكِيدِ الضَّمِيرِ كَقَوْلِهِ: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [الْبَقَرَةِ: ٣٥] لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَمْرَكُمْ فَصْلٌ بَيْنَ الضَّمِيرِ وَبَيْنَ الْمَنْسُوقِ، فَكَانَ كَالْعِوَضِ مِنَ التَّوْكِيدِ وَكَانَ الْفَرَّاءُ يَسْتَقْبِحُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، لِأَنَّهَا تُوجِبُ أَنْ يُكْتَبَ وَشُرَكَاؤُكُمْ بِالْوَاوِ وَهَذَا الْحَرْفُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْمَصَاحِفِ.
الْقَيْدُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: أَيْ مُبْهَمًا مِنْ قَوْلِهِمْ غُمَّ عَلَيْنَا الْهِلَالُ فَهُوَ مَغْمُومٌ إِذَا الْتَبَسَ قَالَ طَرَفَةُ: