للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أراد أكذبتك فكذا هاهنا. الرَّابِعُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ اللَّامُ لَامُ الدُّعَاءِ وهي لام مكسورة تجزم المستقل وَيُفْتَتَحُ بِهَا الْكَلَامُ، فَيُقَالُ لِيَغْفِرَ اللَّه لِلْمُؤْمِنِينَ وَلِيُعَذِّبَ اللَّه الْكَافِرِينَ، وَالْمَعْنَى رَبَّنَا ابْتَلِهِمْ بِالضَّلَالِ عَنْ سَبِيلِكَ. الْخَامِسُ: أَنَّ هَذِهِ اللَّامَ لَامُ التَّعْلِيلِ لَكِنْ بِحَسَبِ ظَاهِرِ الْأَمْرِ لَا فِي نَفْسِ الْحَقِيقَةِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَعْطَاهُمْ هَذِهِ الْأَمْوَالَ وَصَارَتْ تِلْكَ الْأَمْوَالُ سَبَبًا لِمَزِيدِ الْبَغْيِ وَالْكُفْرِ، أَشْبَهَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ حَالَةَ مَنْ أَعْطَى الْمَالَ لِأَجْلِ الْإِضْلَالِ فَوَرَدَ هَذَا الْكَلَامُ بِلَفْظِ التَّعْلِيلِ لِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى. السَّادِسُ: بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً [البقرة: ٢٦] فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ الضَّلَالَ قَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْهَلَاكِ يُقَالُ: الْمَاءُ فِي اللَّبَنِ أَيْ هَلَكَ فِيهِ.

إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ معناه: ليهلكون وَيَمُوتُوا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [التَّوْبَةِ: ٥٥] فَهَذَا جُمْلَةُ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ.

وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ أَجَبْنَا عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ مِرَارًا كَثِيرَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ نُعِيدَ بَعْضَهَا فِي هَذَا الْمَقَامِ فَنَقُولُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْإِضْلَالِ مِنَ اللَّه تَعَالَى وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْصِدُ إِلَّا حُصُولَ الْهِدَايَةِ، فَلَمَّا لَمْ تَحْصُلِ الْهِدَايَةُ بَلْ حَصَلَ الضَّلَالُ الَّذِي لَا يُرِيدُهُ، عَلِمْنَا أَنَّ حُصُولَهُ لَيْسَ مِنَ الْعَبْدِ بَلْ مِنَ اللَّه تَعَالَى.

فَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُ ظَنَّ بِهَذَا الضَّلَالِ أَنَّهُ هُدًى؟ فَلَا جَرَمَ قَدْ أَوْقَعَهُ وَأَدْخَلَهُ فِي الْوُجُودِ فَنَقُولُ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِقْدَامُهُ عَلَى تَحْصِيلِ هَذَا الْجَهْلِ بِسَبَبِ الْجَهْلِ السَّابِقِ، فَلَوْ كَانَ حُصُولُ ذَلِكَ الْجَهْلِ السَّابِقِ بِسَبَبِ جَهْلٍ آخَرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَاتِ وَالضَّلَالَاتِ لَا بُدَّ مِنَ انْتِهَائِهَا إِلَى جَهْلٍ أَوَّلَ وَضَلَالٍ أَوَّلَ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِإِحْدَاثِ الْعَبْدِ وَتَكْوِينِهِ لِأَنَّهُ كَرِهَهُ وَإِنَّمَا أَرَادَ ضِدَّهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّه تَعَالَى. الثَّانِي: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ بِحَيْثُ يُحِبُّونَ الْمَالَ وَالْجَاهَ حُبًّا شَدِيدًا لَا يُمْكِنُهُ إِزَالَةُ هَذَا الْحُبِّ عَنْ نَفْسِهِ أَلْبَتَّةَ، وَكَانَ حُصُولُ هَذَا الْحُبِّ يُوجِبُ الْإِعْرَاضَ عَمَّنْ يَسْتَخْدِمُهُ وَيُوجِبُ التَّكَبُّرَ عَلَيْهِ وَتَرْكَ الِالْتِفَاتِ إِلَى قَوْلِهِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْكُفْرَ، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ بَعْضُهَا يَتَأَدَّى إِلَى الْبَعْضِ تَأَدِّيًا عَلَى سَبِيلِ اللُّزُومِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ هَذَا الْكُفْرِ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ مَجْبُولًا عَلَى حُبِّ الْمَالِ وَالْجَاهِ. الثَّالِثُ: وَهُوَ الْحُجَّةُ الْكُبْرَى أَنَّ الْقُدْرَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الضِّدَّيْنِ عَلَى السَّوِيَّةِ، فَلَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الثَّانِي إِلَّا لِمُرَجِّحٍ، وَذَلِكَ الْمُرَجَّحُ لَيْسَ مِنَ الْعَبْدِ وَإِلَّا لَعَادَ الْكَلَامُ فِيهِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونُ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الْهِدَايَةُ وَالْإِضْلَالُ مِنَ اللَّه تَعَالَى.

الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا وَقَوَّى حُبَّ ذَلِكَ الْمَالِ وَالْجَاهِ فِي قُلُوبِهِمْ. وَأَوْدَعَ فِي طِبَاعِهِمْ نَفْرَةً شَدِيدَةً عَنْ خِدْمَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالِانْقِيَادِ لَهُ، لَا سِيَّمَا وَكَانَ فِرْعَوْنُ كَالْمُنْعِمِ فِي حَقِّهِ وَالْمُرَبِّي لَهُ وَالنَّفْرَةُ عَنْ خِدْمَةِ مَنْ هَذَا شَأْنُهُ رَاسِخَةٌ فِي الْقُلُوبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُوجِبُ إِعْرَاضَهُمْ عَنْ قَبُولِ دَعْوَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِصْرَارَهُمْ عَلَى إِنْكَارِ صِدْقِهِ، فَثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ إِعْطَاءَ اللَّه تَعَالَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ زِينَةَ الدُّنْيَا وَأَمْوَالَ الدُّنْيَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِضَلَالِهِمْ فَثَبَتَ أَنَّ مَا أَشْعَرَ بِهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ فَقَدْ ثَبَتَ صِحَّتُهُ بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَرْكُ ظَاهِرِ اللَّفْظِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ وَكَيْفَ يَحْسُنُ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى الْوُجُوهِ الْمُتَكَلَّفَةِ الضَّعِيفَةِ جِدًّا.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ حَمْلُ اللَّامِ عَلَى لَامِ الْعَاقِبَةِ فَضَعِيفٌ، لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ عَالِمًا بِالْعَوَاقِبِ.

فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ اللَّه تَعَالَى أخبره بذلك؟

<<  <  ج: ص:  >  >>