وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَتْلُو تِلْكَ الْبَيِّنَةَ وَقَوْلُهُ: مِنْهُ أَيْ هَذَا الشَّاهِدُ مِنْ مُحَمَّدٍ وَبَعْضٌ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَشْرِيفُ هَذَا الشَّاهِدِ بِأَنَّهُ بَعْضٌ مِنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَرَابِعُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَيَتْلُوهُ الْقُرْآنَ بَلْ حُصُولَ هَذَا الشَّاهِدِ عَقِيبَ تِلْكَ الْبَيِّنَةِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَالُوا إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ صُورَةَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَوَجْهَهُ وَمَخايِلَهُ كُلُّ ذَلِكَ يَشْهَدُ بِصِدْقِهِ، لِأَنَّ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهِ بِعَقْلِهِ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ/ وَلَا كَاهِنٍ وَلَا سَاحِرٍ وَلَا كَذَّابٍ وَالْمُرَادُ بِكَوْنِ هَذَا الشَّاهِدِ مِنْهُ كَوْنُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ مُتَعَلِّقَةً بِذَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّهُ عَلَى بَيِّنَةٍ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ بِالْبَيِّنَةِ الْقُرْآنُ وَيَتْلُوهُ أَيْ وَيَتْلُو الْكِتَابَ الَّذِي هُوَ الْحُجَّةُ يَعْنِي وَيَعْقُبُهُ شَاهِدٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الشَّاهِدِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ الشَّاهِدُ هُوَ كَوْنُ الْقُرْآنِ وَاقِعًا عَلَى وَجْهٍ يَعْرِفُ كُلُّ مَنْ نَظَرَ فِيهِ أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ وَذَلِكَ الْوَجْهُ هُوَ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْفَصَاحَةِ التَّامَّةِ وَالْبَلَاغَةِ الْكَامِلَةِ وَكَوْنُهُ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ الْبَشَرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَقَوْلُهُ: شاهِدٌ مِنْهُ أَيْ مِنْ تِلْكَ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّ أَحْوَالَ الْقُرْآنِ وَصِفَاتِهِ مِنَ القراآت مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ يَعْنِي الْإِنْجِيلُ يَتْلُو الْقُرْآنَ وَإِنْ كَانَ قَدْ أُنْزِلَ قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَتْلُوهُ فِي التَّصْدِيقِ، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِنْجِيلِ، وَأَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وَإِنْ كَانَا مُحْتَمَلَيْنِ إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَقْوَى وَأَتَمُّ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ كِتَابَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِكَوْنِهِ إِمَامًا وَرَحْمَةً، وَمَعْنَى كَوْنِهِ إِمَامًا أَنَّهُ كَانَ مُقْتَدَى الْعَالِمِينَ، وَإِمَامًا لَهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ الدِّينِ وَالشَّرَائِعِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ رَحْمَةً فَلِأَنَّهُ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الرَّحْمَةِ وَالثَّوَابِ فَلَمَّا كَانَ سَبَبًا لِلرَّحْمَةِ أَطْلَقَ اسْمَ الرَّحْمَةِ عَلَيْهِ إِطْلَاقًا لِاسْمِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّه بِأَنَّهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ فِي صِحَّةِ هَذَا الدِّينِ يُؤْمِنُونَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَطَالِبَ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهَا مَا يُعْلَمُ صِحَّتُهَا بِالْبَدِيهَةِ، وَمِنْهَا مَا يُحْتَاجُ فِي تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِهَا إِلَى طَلَبٍ وَاجْتِهَادٍ، وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي عَلَى قِسْمَيْنِ، لِأَنَّ طَرِيقَ تَحْصِيلِ الْمَعَارِفِ إِمَّا الْحُجَّةُ وَالْبُرْهَانُ الْمُسْتَنْبَطُ بِالْعَقْلِ وَإِمَّا الِاسْتِفَادَةُ مِنَ الوحي والإلهام، فهذا الطَّرِيقَانِ هُمَا الطَّرِيقَانِ اللَّذَانِ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِمَا فِي تَعْرِيفِ الْمَجْهُولَاتِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا وَاعْتَضَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ بَلَغَا الْغَايَةَ فِي الْقُوَّةِ وَالْوُثُوقِ، ثُمَّ إِنَّ فِي أَنْبِيَاءِ اللَّه تَعَالَى كَثْرَةً، فَإِذَا تَوَافَقَتْ كَلِمَاتُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى صِحَّتِهِ، وَكَانَ الْبُرْهَانُ الْيَقِينِيُّ قَائِمًا عَلَى صِحَّتِهِ، فَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ قَدْ بَلَغَتْ فِي الْقُوَّةِ إِلَى حَيْثُ لَا يُمْكِنُ الزِّيَادَةُ فَقَوْلُهُ: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ الْمُرَادُ بِالْبَيِّنَةِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ الْيَقِينِيَّةُ، وَقَوْلُهُ: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْوَحْيِ الَّذِي حَصَلَ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَوْلُهُ: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً/ إِشَارَةٌ إِلَى الْوَحْيِ الَّذِي حَصَلَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعِنْدَ اجْتِمَاعِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ قَدْ بَلَغَ هَذَا الْيَقِينُ فِي الْقُوَّةِ وَالظُّهُورِ وَالْجَلَاءِ إِلَى حَيْثُ لَا يُمْكِنُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَحْزَابِ أَصْنَافُ الْكُفَّارِ، فَيَدْخُلُ فِيهِمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ.
رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَسْمَعُ بِي يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ فَلَا يُؤْمِنُ بِي إِلَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» قَالَ أَبُو مُوسَى: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقُولُ مِثْلَ هَذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute