الْأَرْضِ
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَعْنَى الْإِعْجَازِ الْمَنْعُ مِنْ تَحْصِيلِ الْمُرَادِ. يُقَالُ أَعْجَزَنِي فُلَانٌ أَيْ مَنَعَنِي عَنْ مُرَادِي، وَمَعْنَى مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أَيْ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَهْرُبُوا مِنْ عَذَابِنَا فَإِنَّ هَرَبَ الْعَبْدِ مِنْ عَذَابِ اللَّه مُحَالٌ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَادِرٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، وَلَا تَتَفَاوَتُ قُدْرَتُهُ بِالْبُعْدِ وَالْقُرْبِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ.
وَالصِّفَةُ التَّاسِعَةُ: أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ أَوْلِيَاءُ يَدْفَعُونَ عَذَابَ اللَّه عَنْهُمْ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي وَصْفِهِمُ الْأَصْنَامَ بِأَنَّهَا شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّه وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قَوْلَهُ: أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى الْفِرَارِ وَقَوْلُهُ: وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ هُوَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَخْلِيصِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ، فَجَمَعَ تَعَالَى بَيْنَ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ وَبَيْنَ مَا يَرْجِعُ إِلَى غَيْرِهِمْ وَبَيَّنَ بِذَلِكَ انْقِطَاعَ حِيَلِهِمْ فِي الْخَلَاصِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ قَوْمٌ الْمُرَادُ أَنَّ عَدَمَ نُزُولِ الْعَذَابِ لَيْسَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ قَدَرُوا عَلَى مَنْعِ اللَّه مِنْ إِنْزَالِ الْعَذَابِ وَلَا لِأَجْلِ أَنَّ لَهُمْ نَاصِرًا يَمْنَعُ ذَلِكَ الْعَذَابَ عَنْهُمْ، بَلْ إِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ الْإِمْهَالُ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمْهَلَهُمْ كَيْ يَتُوبُوا فَيَزُولُوا عَنْ كُفْرِهِمْ فَإِذَا أَبَوْا إِلَّا الثَّبَاتَ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ مُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْمُرَادُ أَنْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ للَّه عَمَّا يُرِيدُ إِنْزَالَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ أَوْ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَجِدُونَ وَلِيًّا يَنْصُرُهُمْ وَيَدْفَعُ ذَلِكَ عَنْهُمْ.
وَالصِّفَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ قِيلَ سَبَبُ تَضْعِيفِ الْعَذَابِ فِي حَقِّهِمْ أَنَّهُمْ كَفَرُوا باللَّه وَبِالْبَعْثِ وَبِالنُّشُورِ، فَكُفْرُهُمْ بِالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ صَارَ سَبَبًا لِتَضْعِيفِ الْعَذَابِ، وَالْأَصْوَبُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ مَعَ ضَلَالِهِمُ الشَّدِيدِ، سَعَوْا فِي الْإِضْلَالِ وَمَنْعِ النَّاسِ عَنِ الدِّينِ الْحَقِّ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى حَصَلَ هَذَا التَّضْعِيفُ عَلَيْهِمْ.
الصِّفَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ وَالْمُرَادُ مَا هُمْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ صَمَمِ الْقَلْبِ وَعَمَى النَّفْسِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَخْلُقُ فِي الْمُكَلَّفِ مَا يَمْنَعُهُ الْإِيمَانَ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى مَنَعَ الْكَافِرَ مِنَ الْإِيمَانِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فهو قوله:
يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [الْقَلَمِ: ٤٢] وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعَ الْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ/ كَوْنَهُمْ عَاجِزِينَ عَنِ الْوُقُوفِ عَلَى دَلَائِلِ اللَّه تَعَالَى، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْبَدِيهَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُمْ كانوا يسمعون الأصوات والحروف، وجب حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الثَّانِي أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ بِأَنَّ السَّمْعَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنِ الْحَاسَّةِ الْمَخْصُوصَةِ، أَوْ عَنْ مَعْنَى يَخْلُقُهُ اللَّه تَعَالَى فِي صِمَاخِ الْأُذُنِ، وَكِلَاهُمَا لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَوِ اجْتَهَدَ فِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ أَوْ يَتْرُكَهُ لَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ إِثْبَاتُ الِاسْتِطَاعَةِ فِيهِ مُحَالًا، وَإِذَا كَانَ إِثْبَاتُهَا مُحَالًا كَانَ نَفْيُ الِاسْتِطَاعَةِ عَنْهُ هُوَ الْحَقَّ، فَثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ لَا يَقْدَحُ فِي قَوْلِنَا. ثُمَّ قَالَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ إِهْمَالُهُمْ لَهُ وَنُفُورُهُمْ عَنْهُ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: هَذَا كَلَامٌ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْمَعَهُ، وَهَذَا مِمَّا يَمُجُّهُ سَمْعِي وَذَكَرَ غَيْرُ الْجُبَّائِيِّ عُذْرًا آخَرَ، فَقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى نَفَى أَنْ يَكُونَ لَهُمْ أَوْلِيَاءُ وَالْمُرَادُ الْأَصْنَامُ ثُمَّ بَيَّنَ نَفْيَ كَوْنِهِمْ أَوْلِيَاءَ بِقَوْلِهِ: مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ فَكَيْفَ يَصْلُحُونَ لِلْوِلَايَةِ.
وَالْجَوَابُ: أَمَّا حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى خلق الحاسة وعلى خلق المعنى فيها باطل، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي مَعْرِضِ الْوَعِيدِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْنًى مُخْتَصًّا بِهِمْ، وَالْمَعْنَى الَّذِي قَالُوهُ حَاصِلٌ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute