للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْإِنْسَانَ إِذَا عَظُمَ غَمُّهُ انْحَصَرَ رَوْحُ قَلْبِهِ فِي دَاخِلِ الْقَلْبِ فَإِذَا انْحَصَرَ الرَّوْحُ قَوِيَتِ الْحَرَارَةُ وَعَظُمَتْ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إِلَى النَّفَسِ الْقَوِيِّ لِأَجْلِ أَنْ يَسْتَدْخِلَ هَوَاءً كَثِيرًا بَارِدًا حَتَّى يَقْوَى عَلَى تَرْوِيحِ تِلْكَ الْحَرَارَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ يَعْظُمُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ اسْتِدْخَالُ الْهَوَاءِ فِي دَاخِلِ الْبَدَنِ وَحِينَئِذٍ يَرْتَفِعُ صَدْرُهُ وَيَنْتَفِخُ جَنْبَاهُ، وَلَمَّا كَانَتِ الْحَرَارَةُ الْغَرِيزِيَّةُ وَالرَّوْحُ الحيواني محصورا في دَاخِلَ الْقَلْبِ اسْتَوْلَتِ الْبُرُودَةُ عَلَى الْأَعْضَاءِ الْخَارِجَةِ فَرُبَّمَا عَجَزَتْ آلَاتُ النَّفَسِ عَنْ دَفْعِ ذَلِكَ الْهَوَاءِ الْكَثِيرِ الْمُسْتَنْشَقِ فَيَبْقَى ذَلِكَ الْهَوَاءُ الْكَثِيرُ مُنْحَصِرًا فِي الصَّدْرِ وَيَقْرُبُ مِنْ أَنْ يَخْتَنِقَ الْإِنْسَانُ مِنْهُ وَحِينَئِذٍ تَجْتَهِدُ الطَّبِيعَةُ فِي إِخْرَاجِ ذَلِكَ الْهَوَاءِ فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الْأَطِبَّاءِ الزَّفِيرُ هُوَ اسْتِدْخَالُ الْهَوَاءِ الْكَثِيرِ لِتَرْوِيحِ الْحَرَارَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْقَلْبِ بِسَبَبِ انْحِصَارِ الرُّوحِ فِيهِ، وَالشَّهِيقُ هُوَ إِخْرَاجُ ذَلِكَ الْهَوَاءِ عِنْدَ مُجَاهَدَةِ الطَّبِيعَةِ فِي إِخْرَاجِهِ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ تَدُلُّ عَلَى كَرْبٍ شَدِيدٍ وَغَمٍّ عَظِيمٍ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الزَّفِيرِ وَالشَّهِيقِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: الزَّفِيرُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ صَوْتِ الْحِمَارِ بِالنَّهِيقِ.

وَأَمَّا الشَّهِيقُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ آخِرِ صَوْتِ الْحِمَارِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ الْحَسَنُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الزَّفِيرَ عِبَارَةٌ عَنِ الِارْتِفَاعِ. فَنَقُولُ: الزَّفِيرُ لَهِيبُ جَهَنَّمَ يَرْفَعُهُمْ بِقُوَّتِهِ حَتَّى إِذَا وَصَلُوا إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ جَهَنَّمَ وَطَمِعُوا فِي أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا ضَرَبَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِمَقَامِعَ مِنْ حَدِيدٍ وَيَرُدُّونَهُمْ إِلَى الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ جَهَنَّمَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها فَارْتِفَاعُهُمْ فِي النَّارِ هُوَ الزَّفِيرُ وَانْحِطَاطُهُمْ مَرَّةً أُخْرَى هُوَ الشَّهِيقُ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الزَّفِيرُ مَا يَجْتَمِعُ فِي الصَّدْرِ مِنَ النَّفَسِ عِنْدَ الْبُكَاءِ الشَّدِيدِ فَيَنْقَطِعُ النَّفَسُ، وَالشَّهِيقُ هُوَ الَّذِي يَظْهَرُ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْكُرْبَةِ وَالْحُزْنِ، وَرُبَّمَا تَبِعَهُمَا الْغَشْيَةُ، وَرُبَّمَا حَصَلَ عَقِيبَهُ الْمَوْتُ.

الْوَجْهُ الْخَامِسُ: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الزَّفِيرُ فِي الْحَلْقِ وَالشَّهِيقُ فِي الصَّدْرِ.

الْوَجْهُ السَّادِسُ: قَالَ قَوْمٌ: الزَّفِيرُ الصَّوْتُ الشَّدِيدُ، وَالشَّهِيقُ الصَّوْتُ الضَّعِيفُ.

الْوَجْهُ السَّابِعُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ يُرِيدُ نَدَامَةً وَنَفْسًا عَالِيَةً وَبُكَاءً لَا يَنْقَطِعُ وَحُزْنًا لَا يَنْدَفِعُ.

الْوَجْهُ الثَّامِنُ: الزَّفِيرُ مُشْعِرٌ بِالْقُوَّةِ، وَالشَّهِيقُ بِالضَّعْفِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ بِحَسْبِ اللُّغَةِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الزَّفِيرِ قُوَّةَ مَيْلِهِمْ إِلَى عَالَمِ الدُّنْيَا وَإِلَى اللَّذَّاتِ الْجَسَدَانِيَّةِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الشَّهِيقِ ضَعْفُهُمْ عَنِ الِاسْتِسْعَادِ بِعَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ وَالِاسْتِكْمَالُ بِالْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْمَعَارِجِ الْقُدُسِيَّةِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ قوم إن عذاب الكفار منقطع ولها نِهَايَةٌ، وَاحْتَجُّوا بِالْقُرْآنِ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَآيَاتٌ مِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ دَلَّ هَذَا النَّصُّ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ عقابهم مساوية لمدة بقاء السموات وَالْأَرْضِ، ثُمَّ تَوَافَقْنَا عَلَى أَنَّ مُدَّةَ بَقَاءِ السموات وَالْأَرْضِ مُتَنَاهِيَةٌ فَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ عِقَابِ الْكُفَّارِ مُنْقَطِعَةً. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مُدَّةِ عِقَابِهِمْ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى زَوَالِ ذَلِكَ الْعَذَابِ فِي وَقْتِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ وَمِمَّا تَمَسَّكُوا بِهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً [النَّبَأِ: ٢٣] بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ لُبْثَهُمْ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ لَا يَكُونُ إِلَّا أَحْقَابًا مَعْدُودَةً.

<<  <  ج: ص:  >  >>