إِقَامَتُهُمَا كَفَّارَةً لِكُلِّ ذَنْبٍ سِوَاهُمَا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ وَاجِبَةٌ إِلَّا/ أَنَّ إِقَامَتَهُمَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ كَفَّارَةً لِتَرْكِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَثُرَتِ الْمَذَاهِبُ فِي تَفْسِيرِ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الصلاة التي تقام في طرفي النهار وهي الْفَجْرُ وَالْعَصْرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَحَدَ طَرَفَيِ النَّهَارِ طُلُوعُ الشَّمْسِ وَالطَّرَفُ الثَّانِي مِنْهُ غُرُوبُ الشَّمْسِ فَالطَّرَفُ الْأَوَّلُ هُوَ صَلَاةُ الْفَجْرِ وَالطَّرَفُ الثَّانِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ فَوَجَبَ حَمْلُ الطَّرَفِ الثَّانِي عَلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا كَانَتِ الْآيَةُ دَلِيلًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه فِي أَنَّ التَّنْوِيرَ بِالْفَجْرِ أَفْضَلُ، وَفِي أَنَّ تَأْخِيرَ الْعَصْرِ أَفْضَلُ وَذَلِكَ لِأَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ وَبَيَّنَّا أَنَّ طَرَفَيِ النَّهَارِ هُمَا الزَّمَانُ الْأَوَّلُ لِطُلُوعِ الشَّمْسِ، وَالزَّمَانُ الثَّانِي لِغُرُوبِهَا، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ، فَقَدْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ:
أَقِمِ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَقْرُبُ مِنْ طَرَفَيِ النَّهَارِ، لِأَنَّ مَا يَقْرُبُ مِنَ الشَّيْءِ يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمُهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ وَقْتٍ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَإِلَى غُرُوبِهَا كَانَ أَقْرَبَ إِلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَإِقَامَةُ صَلَاةِ الْفَجْرِ عِنْدَ التَّنْوِيرِ أَقْرَبُ إِلَى وَقْتِ الطُّلُوعِ مِنْ إِقَامَتِهَا عِنْدَ التَّغْلِيسِ، وَكَذَلِكَ إِقَامَةُ صَلَاةِ العصر عند ما يَصِيرُ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ أَقْرَبُ إِلَى وقت الغروب من إقامتها عند ما يَصِيرُ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، وَالْمَجَازُ كُلَّمَا كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْحَقِيقَةِ كَانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ أَوْلَى، فَثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يُقَوِّي قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ فَهُوَ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي ثَلَاثِ زُلَفٍ مِنَ اللَّيْلِ، لِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ وَلِلْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَقْتَانِ، فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِوُجُوبِ الْوَتْرِ حَتَّى يَحْصُلَ زُلَفٌ ثَلَاثَةٌ يَجِبُ إِيقَاعُ الصَّلَاةِ فِيهَا، وَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْوَتْرِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لقوله تعالى: وَاتَّبِعُوهُ [سبأ: ٢٠] وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ بِعَيْنِهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها [طَهَ: ٣٠] فَالَّذِي هُوَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ هُوَ صَلَاةُ الْفَجْرِ، وَالَّذِي هُوَ قَبْلَ غُرُوبِهَا هُوَ صَلَاةُ الْعَصْرِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وهو نظير قَوْلِهِ: وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَجُلٍ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي رَجُلٍ أَصَابَ مِنَ امْرَأَةٍ مُحَرَّمَةٍ كلما يُصِيبُهُ الرَّجُلُ مِنَ امْرَأَتِهِ غَيْرَ الْجِمَاعِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لِيَتَوَضَّأْ وُضُوءًا حَسَنًا ثُمَّ لِيَقُمْ وَلْيُصَلِّ» فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، فَقِيلَ/ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: هَذَا لَهُ خَاصَّةً، فَقَالَ: «بَلْ هُوَ لِلنَّاسِ عَامَّةً»
وَقَوْلُهُ: وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ قَالَ اللَّيْثُ: زُلْفَةٌ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ طَائِفَةٌ، وَالْجَمْعُ الزُّلَفُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ:
وأصل الكلمة من الزلف وَالزُّلْفَى هِيَ الْقُرْبَى، يُقَالُ: أَزْلَفْتُهُ فَازْدَلَفْ أَيْ قَرَّبْتُهُ فَاقْتَرَبَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قرئ زُلَفاً بضمتين وزُلَفاً بِإِسْكَانِ اللَّامِ وَزُلْفَى بِوَزْنِ قُرْبَى فَالزُّلَفُ جَمْعُ زُلْفَةٍ كَظُلَمٍ جَمْعُ ظُلْمَةٍ وَالزُّلْفُ بِالسُّكُونِ نَحْوُ بُسْرَةٍ وَبُسْرٍ وَالزُّلُفُ بِضَمَّتَيْنِ نَحْوُ: يُسُرٌ فِي يُسُرٍ، وَالزُّلْفَى بِمَعْنَى الزُّلْفَةِ كَمَا أَنَّ الْقُرْبَى بِمَعْنَى الْقُرْبَةِ وَهُوَ مَا يَقْرُبُ مِنْ آخِرِ النهار من نَحْوُ: يُسُرٌ فِي يُسُرٍ، وَالزُّلْفَى بِمَعْنَى الزُّلْفَةِ كَمَا أَنَّ الْقُرْبَى بِمَعْنَى الْقُرْبَةِ وَهُوَ مَا يَقْرُبُ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ مِنَ اللَّيْلِ، وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ:
وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ وَقُرَبًا مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: