للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اعْلَمْ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي غَايَةِ الْجَمَالِ وَالْحُسْنِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ طَمِعَتْ فِيهِ وَيُقَالُ أَيْضًا إِنَّ زَوْجَهَا كَانَ عَاجِزًا يُقَالُ: رَاوَدَ فُلَانٌ جَارِيَتَهُ عَنْ نَفْسِهَا وَرَاوَدَتْهُ هِيَ عَنْ نَفْسِهِ إِذَا حَاوَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْوَطْءَ وَالْجِمَاعَ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَالسَّبَبُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ لَا يُؤْتَى بِهِ إِلَّا فِي الْمَوَاضِعِ الْمَسْتُورَةِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ حَرَامًا، وَمَعَ قِيَامِ الْخَوْفِ الشَّدِيدِ وَقَوْلُهُ: وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ أَيْ أَغْلَقَتْهَا قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ تَشَبَّثَ فِي شَيْءٍ فَلَزِمَهُ قَدْ غَلِقَ يُقَالُ: غَلِقٌ فِي الْبَاطِلِ وَغَلِقٌ فِي غَضَبِهِ، وَمِنْهُ غَلْقُ الرَّهْنِ، ثُمَّ يُعَدَّى بِالْأَلِفِ فَيُقَالُ: أُغْلِقَ الْبَابُ إِذَا جَعَلَهُ بِحَيْثُ يَعْسُرُ فَتْحُهُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَإِنَّمَا جَاءَ غَلَّقَتْ عَلَى التَّكْثِيرِ لِأَنَّهَا غَلَّقَتْ سَبْعَةَ أَبْوَابٍ، ثُمَّ دَعَتْهُ إِلَى نَفْسِهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَيْتَ لَكَ اسْمٌ لِلْفِعْلِ نَحْوَ: رُوَيْدًا، وَصَهْ، وَمَهْ. وَمَعْنَاهُ هَلُمَّ فِي قَوْلِ جَمِيعِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هَيْتَ لَكَ مَفْتُوحَةُ الْهَاءِ وَالتَّاءِ، وَيَجُوزُ أَيْضًا كَسْرُ التَّاءِ وَرَفْعُهَا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ أَبُو الْفَضْلِ الْمُنْذِرِيُّ: أَفَادَنِي ابْنُ التَّبْرِيزِيِّ عَنْ أَبِي زَيْدٍ قَالَ: هيت لك بالعبرانية هيالح، أَيْ تَعَالَ عَرَّبَهُ الْقُرْآنُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهَا لُغَةٌ لَأَهْلِ حَوْرَانَ سَقَطَتْ إِلَى بَكَّةَ فَتَكَلَّمُوا بِهَا. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا وِفَاقٌ بَيْنَ لُغَةِ قُرَيْشٍ وَأَهْلِ حَوْرَانَ كَمَا اتَّفَقَتْ لُغَةُ الْعَرَبِ وَالرُّومِ فِي «الْقِسْطَاسِ» وَلُغَةُ الْعَرَبِ وَالْفُرْسِ فِي السِّجِّيلِ وَلُغَةُ الْعَرَبِ وَالتُّرْكِ فِي «الْغَسَّاقِ» وَلُغَةُ الْعَرَبِ وَالْحَبَشَةِ فِي «نَاشِئَةَ اللَّيْلِ» .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ ذَكْوَانَ هِيتَ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَفَتْحِ التَّاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ هَيْتُ لَكَ مِثْلُ حَيْثُ، وَقَرَأَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَامِرٍ هِئْتُ لَكَ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَهَمْزِ الْيَاءِ وَضَمِّ التَّاءِ مِثْلُ جِئْتُ مِنْ تَهَيَّأْتُ لَكَ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ وَفَتْحِ التَّاءِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ الْمَرْأَةَ لَمَّا ذَكَرَتْ هَذَا الْكَلَامَ قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ فَقَوْلُهُ: مَعاذَ اللَّهِ أَيْ أَعُوذُ باللَّه مَعَاذًا، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ لِلشَّأْنِ وَالْحَدِيثِ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ أَيْ رَبِّي وَسَيِّدِي وَمَالِكِي أَحْسَنَ مَثْوَايَ حِينَ قَالَ لَكِ: أَكْرِمِي مَثْوَاهُ، فَلَا يَلِيقُ بِالْعَقْلِ أَنْ أُجَازِيَهُ عَلَى ذَلِكَ الْإِحْسَانِ بِهَذِهِ الْخِيَانَةِ الْقَبِيحَةِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الَّذِينَ يُجَازُونَ الْإِحْسَانَ بِالْإِسَاءَةِ، وَقِيلَ: أَرَادَ الزُّنَاةَ لِأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ أَنْفُسَهُمْ أَوْ لِأَنَّ عَمَلَهُمْ يَقْتَضِي وَضْعَ الشَّيْءِ في غير موضعه، وهاهنا سُؤَالَاتٌ:

السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ حُرًّا وَمَا كَانَ عَبْدًا لِأَحَدٍ فَقَوْلُهُ: إِنَّهُ رَبِّي يَكُونُ كَذِبًا وَذَلِكَ ذَنْبٌ وَكَبِيرَةٌ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَجْرَى هَذَا الْكَلَامَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ وَعَلَى وَفْقِ مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِيهِ مِنْ كَوْنِهِ عَبْدًا لَهُ وَأَيْضًا أَنَّهُ رَبَّاهُ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ بِالْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ فَعَنَى بِكَوْنِهِ رَبًّا لَهُ كَوْنَهُ مُرَبِّيًا لَهُ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْمَعَارِيضِ الْحَسَنَةِ، فَإِنَّ أَهْلَ الظَّاهِرِ يَحْمِلُونَهُ عَلَى كَوْنِهِ رَبًّا لَهُ وَهُوَ كَانَ يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ كَانَ مُرَبِّيًا لَهُ وَمُنْعِمًا عَلَيْهِ.

السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ يَدُلُّ قَوْلُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَعاذَ اللَّهِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا فِي الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةً ظَاهِرَةً لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعُوذُ باللَّه مَعَاذًا، طَلَبٌ مِنَ اللَّه أَنْ يُعِيذَهُ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَتِلْكَ الْإِعَاذَةُ لَيْسَتْ عِبَارَةً عَنْ إِعْطَاءِ الْقُدْرَةِ وَالْعَقْلِ وَالْآلَةِ، وَإِزَاحَةِ/ الْأَعْذَارِ، وَإِزَالَةِ الْمَوَانِعِ وَفِعْلِ الْأَلْطَافِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ فِي مَقْدُورِ اللَّه تَعَالَى مِنْ هَذَا الْبَابِ فَقَدْ فَعَلَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إِمَّا طَلَبًا لِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، أَوْ طَلَبًا لِتَحْصِيلِ الْمُمْتَنِعِ وَأَنَّهُ مُحَالٌ فَعَلِمْنَا أَنَّ تِلْكَ الْإِعَاذَةَ الَّتِي طَلَبَهَا يُوسُفُ مِنَ اللَّه تَعَالَى لَا مَعْنَى

<<  <  ج: ص:  >  >>