للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ

[يُوسُفَ: ٢٨، ٢٩] وَأَمَّا الشُّهُودُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ [يُوسُفَ: ٢٦] وَأَمَّا شَهَادَةُ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ فَقَوْلُهُ: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف: ٢٤] فَقَدْ شَهِدَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى طَهَارَتِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَاللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَالْفَحْشاءَ أَيْ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ. وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الْفُرْقَانِ: ٦٣] وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُ: الْمُخْلَصِينَ وَفِيهِ قِرَاءَتَانِ: تَارَةً بِاسْمِ الْفَاعِلِ وَأُخْرَى بِاسْمِ/ الْمَفْعُولِ فَوُرُودُهُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ آتِيًا بِالطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ مَعَ صِفَةِ الْإِخْلَاصِ. وَوُرُودُهُ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى اسْتَخْلَصَهُ لِنَفْسِهِ وَاصْطَفَاهُ لِحَضْرَتِهِ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَإِنَّهُ مِنْ أَدَلِّ الْأَلْفَاظِ عَلَى كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَمَّا أَضَافُوهُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ إِبْلِيسَ أَقَرَّ بِطَهَارَتِهِ، فَلِأَنَّهُ قَالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: ٨٢، ٨٣] فَأَقَرَّ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إِغْوَاءَ الْمُخْلَصِينَ وَيُوسُفُ مِنَ الْمُخْلَصِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ فَكَانَ هَذَا إِقْرَارًا مِنْ إِبْلِيسَ بِأَنَّهُ مَا أَغْوَاهُ وَمَا أَضَلَّهُ عَنْ طَرِيقَةِ الْهُدَى، وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ الَّذِينَ نَسَبُوا إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الْفَضِيحَةَ إِنْ كَانُوا مِنْ أَتْبَاعِ دِينِ اللَّه تَعَالَى فَلْيَقْبَلُوا شَهَادَةَ اللَّه تَعَالَى عَلَى طَهَارَتِهِ وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَتْبَاعِ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ فَلْيَقْبَلُوا شَهَادَةَ إِبْلِيسَ عَلَى طَهَارَتِهِ وَلَعَلَّهُمْ يَقُولُونَ كُنَّا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ تَلَامِذَةَ إِبْلِيسَ إِلَى أَنْ تَخَرَّجْنَا عَلَيْهِ فَزِدْنَا عَلَيْهِ فِي السَّفَاهَةِ كَمَا قَالَ الْخَوَارِزْمِيُّ:

وَكُنْتُ امْرَأً مِنْ جُنْدِ إِبْلِيسَ فَارْتَقَى ... بِيَ الدَّهْرُ حَتَّى صَارَ إِبْلِيسُ مِنْ جُنْدِي

فَلَوْ مَاتَ قَبْلِي كُنْتُ أُحْسِنُ بَعْدَهُ ... طَرَائِقَ فِسْقٍ لَيْسَ يُحْسِنُهَا بَعْدِي

فَثَبَتَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّ يوسف عليه السلام بريء عَمَّا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ.

وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ يَقَعُ فِي مَقَامَيْنِ:

الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنْ نَقُولَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَمَّ بِهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ وَجَوَابُ لَوْلَا هاهنا مُقَدَّمٌ، وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: قَدْ كُنْتُ مِنَ الْهَالِكِينَ لَوْلَا أَنَّ فُلَانًا خَلَّصَكَ، وَطَعَنَ الزَّجَّاجُ فِي هَذَا الْجَوَابِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تَقْدِيمَ جَوَابِ لَوْلَا شَاذٌّ وَغَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ. الثَّانِي: أَنَّ لَوْلَا يُجَابُ جَوَابُهَا بِاللَّامِ، فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ لَقَالَ: وَلَقَدْ هَمَّتْ وَلَهَمَّ بِهَا لَوْلَا. وَذَكَرَ غَيْرُ الزَّجَّاجِ سُؤَالًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدِ الْهَمُّ لَمَا كَانَ لِقَوْلِهِ: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ فَائِدَةٌ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ بَعِيدٌ، لِأَنَّا نُسَلِّمُ أَنَّ تَأْخِيرَ جَوَابِ لَوْلَا حَسَنٌ جَائِزٌ، إِلَّا أَنَّ جَوَازَهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ تَقْدِيمِ هَذَا الْجَوَابِ، وَكَيْفَ وَنُقِلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ، وَالَّذِي هُمْ بِشَأْنِهِ أَعْنَى فَكَانَ الْأَمْرُ فِي جَوَازِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ مَرْبُوطًا بِشِدَّةِ الِاهْتِمَامِ. وَأَمَّا تَعْيِينُ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ بِالْمَنْعِ فَذَلِكَ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ، وَأَيْضًا ذِكْرُ جَوَابِ لَوْلَا بِاللَّامِ جَائِزٌ. أَمَّا هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذِكْرَهُ بِغَيْرِ اللَّامِ لَا يَجُوزُ، ثُمَّ إِنَّا نَذْكُرُ آيَةً أُخْرَى تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الزَّجَّاجِ فِي هَذَيْنِ السُّؤَالَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها [الْقَصَصِ: ١٠] .

<<  <  ج: ص:  >  >>