للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْقَمِيصِ فَقَدَّتْهُ، أَيْ قَطَعَتْهُ طُولًا، وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حَضَرَ زَوْجُهَا وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ أَيْ صَادَفَا بَعْلَهَا تَقُولُ الْمَرْأَةُ لِبَعْلِهَا سَيِّدِي، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ سَيِّدَهُمَا لِأَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ مَمْلُوكًا لِذَلِكَ الرَّجُلِ فِي الْحَقِيقَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ خَافَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ التُّهْمَةِ فَبَادَرَتْ إِلَى أَنْ رَمَتْ يُوسُفَ بِالْفِعْلِ الْقَبِيحِ، وَقَالَتْ: مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ. وَفِي الْآيَةِ لَطَائِفُ:

إِحْدَاهَا: أَنَّ «مَا» يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ نَافِيَةً، أَيْ لَيْسَ جَزَاؤُهُ إِلَّا السِّجْنُ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً يَعْنِي أَيُّ شَيْءٍ جَزَاؤُهُ إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ كَمَا تَقُولُ: مَنْ فِي الدَّارِ إِلَّا زَيْدٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّ حُبَّهَا الشَّدِيدَ لِيُوسُفَ حَمَلَهَا عَلَى رِعَايَةِ دَقِيقَتَيْنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا بَدَأَتْ بِذِكْرِ السِّجْنِ، وَأَخَّرَتْ ذِكْرَ الْعَذَابِ، لِأَنَّ الْمُحِبَّ لَا يَسْعَى فِي إِيلَامِ الْمَحْبُوبِ، وَأَيْضًا أَنَّهَا لَمْ تَذْكُرْ أَنَّ يُوسُفَ يَجِبُ أَنْ يُعَامَلَ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، بَلْ ذَكَرَتْ ذَلِكَ ذِكْرًا كُلِّيًّا صَوْنًا لِلْمَحْبُوبِ عَنِ الذِّكْرِ بِالسُّوءِ وَالْأَلَمِ، وَأَيْضًا قَالَتْ: إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ وَالْمُرَادُ أَنْ يُسْجَنَ يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ عَلَى سَبِيلِ التَّخْفِيفِ.

فَأَمَّا الْحَبْسُ الدائم فإنه لا يعبر بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ، بَلْ يُقَالُ: يَجِبُ أَنْ يُجْعَلَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ أَلَا تَرَى أَنَّ فِرْعَوْنَ هَكَذَا قَالَ حِينَ تَهَدَّدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٢٩] وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا لَمَّا شَاهَدَتْ مِنْ يوسف عليه السلام أنه استعصم منها أَنَّهُ كَانَ فِي عُنْفُوَانِ الْعُمُرِ وَكَمَالِ الْقُوَّةِ وَنِهَايَةِ الشَّهْوَةِ، عَظُمَ اعْتِقَادُهَا فِي طَهَارَتِهِ وَنَزَاهَتِهِ فَاسْتَحْيَتْ أَنْ تَقُولَ إِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَصَدَنِي بِالسُّوءِ، وَمَا وَجَدَتْ مِنْ نَفْسِهَا أَنْ تَرْمِيَهُ بِهَذَا الْكَذِبِ عَلَى سَبِيلِ التَّصْرِيحِ بَلِ اكْتَفَتْ بِهَذَا التَّعْرِيضِ، فَانْظُرْ إِلَى تِلْكَ الْمَرْأَةِ مَا وَجَدَتْ مِنْ نَفْسِهَا أَنْ تَرْمِيَهُ بِهَذَا الْكَذِبِ وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْحَشْوِيَّةَ يَرْمُونَهُ بَعْدَ قَرِيبٍ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ سَنَةٍ بِهَذَا الذَّنْبِ الْقَبِيحِ. ورابعها: أن يوسف عليه السلام أراد يَضْرِبَهَا وَيَدْفَعَهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا جَارِيًا مَجْرَى السُّوءِ فَقَوْلُهَا: مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً جاريا مَجْرَى التَّعْرِيضِ فَلَعَلَّهَا بِقَلْبِهَا كَانَتْ تُرِيدُ إِقْدَامَهُ عَلَى دَفْعِهَا وَمَنْعِهَا وَفِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ كَانَتْ تُوهِمُ أَنَّهُ قَصَدَنِي بِمَا لَا يَنْبَغِي.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَمَّا ذَكَرَتْ هَذَا الْكَلَامَ وَلَطَّخَتْ عِرْضَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ احْتَاجَ يُوسُفُ إِلَى إِزَالَةِ هَذِهِ التُّهْمَةِ فَقَالَ: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي، وَأَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا هَتَكَ سِتْرَهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا خَافَ عَلَى النَّفْسِ وَعَلَى الْعِرْضِ أَظْهَرَ الْأَمْرَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَلَامَاتِ الْكَثِيرَةَ كَانَتْ دَالَّةً عَلَى أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الصَّادِقُ: فَالْأَوَّلُ: أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ كَانَ عَبْدًا لَهُمْ وَالْعَبْدُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يتسلط على مولاه إلى هذا الحدو الثاني: أَنَّهُمْ شَاهَدُوا أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَعْدُو عَدْوًا شَدِيدًا لِيَخْرُجَ وَالرَّجُلُ الطَّالِبُ لِلْمَرْأَةِ لَا يَخْرُجُ مِنَ الدَّارِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الْمَرْأَةَ زَيَّنَتْ نَفْسَهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَأَمَّا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ تَزْيِينِ النَّفْسِ فَكَانَ إِلْحَاقُ هَذِهِ الْفِتْنَةِ بِالْمَرْأَةِ أَوْلَى، الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ شَاهَدُوا أَحْوَالَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ فَمَا رَأَوْا عَلَيْهِ حَالَةً تُنَاسِبُ إِقْدَامَهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ الْمُنْكَرِ، وَذَلِكَ أَيْضًا مِمَّا يُقَوِّي الظَّنَّ، الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ مَا نَسَبَتْهُ إِلَى طَلَبِ الْفَاحِشَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّصْرِيحِ بَلْ ذَكَرَتْ كَلَامًا مُجْمَلًا مُبْهَمًا، وَأَمَّا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِالْأَمْرِ وَلَوْ أَنَّهُ كَانَ مُتَّهَمًا لَمَا قَدَرَ عَلَى التَّصْرِيحِ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ فَإِنَّ الْخَائِنَ خَائِفٌ السَّادِسُ: قِيلَ: إِنَّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ كَانَ عَاجِزًا وَآثَارُ طَلَبِ الشَّهْوَةِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ كَانَتْ مُتَكَامِلَةً فَإِلْحَاقُ هَذِهِ الْفِتْنَةِ بِهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>