هُوَ أَنَّ اشْتِغَالَهَا بِحُبِّهِ صَارَ حِجَابًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ كُلِّ مَا سِوَى هَذِهِ الْمَحَبَّةِ فَلَا تَعْقِلُ سِوَاهُ وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهَا إِلَّا إِيَّاهُ.
وَالثَّالِثُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الشَّغَافُ حَبَّةُ الْقَلْبِ وَسُوَيْدَاءُ الْقَلْبِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ وَصَلَ حُبُّهُ إِلَى سُوَيْدَاءِ قَلْبِهَا، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا كِنَايَةٌ عَنِ الْحُبِّ الشَّدِيدِ وَالْعِشْقِ الْعَظِيمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ شَعَفَهَا بِالْعَيْنِ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ شَعَفَهُ الْهَوَى إِذَا بَلَغَ إِلَى حَدِّ الِاحْتِرَاقِ، وَشَعَفَ الْهَنَاءُ الْبَعِيرَ إِذَا بَلَغَ مِنْهُ الْأَلَمُ إِلَى حَدِّ الِاحْتِرَاقِ، وَكَشَفَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: الشَّعَفُ بِالْعَيْنِ إِحْرَاقُ الْحُبِّ الْقَلْبَ مَعَ لَذَّةٍ يَجِدُهَا، كَمَا أَنَّ البعير إذا هنيء بِالْقَطْرَانِ يَبْلُغُ مِنْهُ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَسْتَرْوِحُ إليه. وقال ابن الأنباري: الشعف رؤوس الْجِبَالِ، وَمَعْنَى شُعِفَ بِفُلَانٍ إِذَا ارْتَفَعَ حُبُّهُ إِلَى أَعْلَى الْمَوَاضِعِ مِنْ قَلْبِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: حُبًّا نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ فِي ضَلَالٍ عَنْ طَرِيقِ الرُّشْدِ بِسَبَبِ حُبِّهَا إِيَّاهُ كَقَوْلِهِ: إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يُوسُفَ: ٨] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَنَّهَا سَمِعَتْ قَوْلَهُنَّ وَإِنَّمَا سُمِّيَ قَوْلُهُنَّ مَكْرًا لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النِّسْوَةَ إِنَّمَا ذَكَرَتْ ذَلِكَ الْكَلَامَ اسْتِدْعَاءً لِرُؤْيَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ لِأَنَّهُنَّ عَرَفْنَ أَنَّهُنَّ إِذَا قُلْنَ ذَلِكَ عَرَضَتْ يُوسُفَ عَلَيْهِنَّ لِيَتَمَهَّدَ عُذْرُهَا عِنْدَهُنَّ. الثَّانِي: أَنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ أَسَرَّتْ إِلَيْهِنَّ حُبَّهَا لِيُوسُفَ وَطَلَبَتْ مِنْهُنَّ كِتْمَانَ هَذَا السِّرِّ، فَلَمَّا أَظْهَرْنَ السِّرَّ كَانَ ذَلِكَ غَدْرًا وَمَكْرًا. الثَّالِثُ: أَنَّهُنَّ وَقَعْنَ فِي غِيبَتِهَا، وَالْغِيبَةُ إِنَّمَا تُذْكَرُ عَلَى سَبِيلِ الْخِفْيَةِ فَأَشْبَهَتِ الْمَكْرَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا لَمَّا سَمِعَتْ أَنَّهُنَّ يَلُمْنَهَا عَلَى تِلْكَ الْمَحَبَّةِ الْمُفْرِطَةِ أَرَادَتْ إِبْدَاءَ عُذْرِهَا فَاتَّخَذَتْ مَائِدَةً وَدَعَتْ جَمَاعَةً مِنْ أَكَابِرِهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً، وَفِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُتَّكَأُ النُّمْرُقُ الَّذِي يُتَّكَأُ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُتَّكَأَ هُوَ الطَّعَامُ. قَالَ الْعُتْبِيُّ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَنْ دَعَوْتَهُ لِيَطْعَمَ عِنْدَكَ فَقَدْ أَعْدَدْتَ لَهُ وِسَادَةً تُسَمِّي الطَّعَامَ مُتَّكَأً عَلَى الِاسْتِعَارَةِ، وَالثَّالِثُ: مُتَّكَأً أُتْرُجًّا، وَهُوَ قَوْلُ وَهْبٍ وَأَنْكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا وَضَعَتْ عِنْدَهُنَّ أَنْوَاعَ الْفَاكِهَةِ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ. وَالرَّابِعُ: مُتَّكَأً طَعَامًا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُقْطَعَ بِالسِّكِّينِ، لِأَنَّ الطَّعَامَ مَتَى كَانَ كَذَلِكَ احْتَاجَ الْإِنْسَانُ إِلَى أَنْ يُتَّكَأَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَطْعِ. ثُمَّ نَقُولُ: حَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّهَا دَعَتْ أُولَئِكَ النِّسْوَةَ وَأَعَدَّتْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَجْلِسًا مُعَيَّنًا وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا أَيْ لِأَجْلِ أَكْلِ الْفَاكِهَةِ أَوْ لِأَجْلِ قَطْعِ اللَّحْمِ ثُمَّ إِنَّهَا أَمَرَتْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِنَّ وَيَعْبُرَ عَلَيْهِنَّ وَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا قَدَرَ عَلَى مُخَالَفَتِهَا خَوْفًا مِنْهَا فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي أَكْبَرْنَهُ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَعْظَمْنَهُ. وَالثَّانِي: أَكْبَرْنَ بِمَعْنَى حِضْنَ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ يُقَالُ أَكْبَرَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا حَاضَتْ، وَحَقِيقَتُهُ دَخَلَتْ فِي الْكِبَرِ لِأَنَّهَا بِالْحَيْضِ تَخْرُجُ مِنْ حَدِّ الصِّغَرِ إِلَى حَدِّ الْكِبَرِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا خَافَتْ وَفَزِعَتْ فَرُبَّمَا أَسْقَطَتْ وَلَدَهَا فَحَاضَتْ، فَإِنْ صَحَّ تَفْسِيرُ الْإِكْبَارِ بِالْحَيْضِ فَالسَّبَبُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ وقوله: وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ كِنَايَةٌ عَنْ دَهْشَتِهِنَّ وَحَيْرَتِهِنَّ، وَالسَّبَبُ فِي حُسْنِ هَذِهِ الْكِنَايَةِ أَنَّهَا لَمَّا دُهِشَتْ فَكَانَتْ تَظُنُّ أَنَّهَا تَقْطَعُ الْفَاكِهَةَ وَكَانَتْ تَقْطَعُ يَدَ نَفْسِهَا، أَوْ يُقَالُ: إِنَّهَا لَمَّا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute