إِثْبَاتِ هَذَا التَّوْحِيدِ الْمُطْلَقِ وَأَنَّهُ مَقَامٌ عَالٍ فَهَذَا مَجْمُوعُ الدَّلَائِلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَقِيَ فِيهَا سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ سَمَّاهَا أَرْبَابًا وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ: لِاعْتِقَادِهِمْ فِيهَا أَنَّهَا كَذَلِكَ، وَأَيْضًا الْكَلَامُ خَرَجَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ: وَالْمَعْنَى أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ أَرْبَابًا فَهِيَ خَيْرٌ أَمِ اللَّه الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ بَيْنَ الْأَصْنَامِ وَبَيْنَ اللَّه تَعَالَى حَتَّى يُقَالَ إِنَّهَا خَيْرٌ أَمِ اللَّه الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ؟
الْجَوَابُ: أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، وَالْمَعْنَى: لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ حَصَلَ مِنْهَا مَا يُوجِبُ الْخَيْرَ فَهِيَ خَيْرٌ أَمِ اللَّه الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ.
ثُمَّ قَالَ: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ وَفِيهِ سُؤَالٌ:
وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ هَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ. ثُمَّ قَالَ عَقِيبَ تِلْكَ الْآيَةِ: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسَمَّى غَيْرُ حَاصِلٍ وَبَيْنَهُمَا تَنَاقُضٌ.
الْجَوَابُ: أَنَّ الذَّاتَ مَوْجُودَةٌ حَاصِلَةٌ إِلَّا أَنَّ الْمُسَمَّى بِالْإِلَهِ غَيْرُ حَاصِلٍ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَوَاتِ الْأَصْنَامِ وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً إِلَّا أَنَّهَا غَيْرُ مَوْصُوفَةٍ بِصِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الشَّيْءُ الَّذِي هُوَ مُسَمًّى بِالْإِلَهِ فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرَ مَوْجُودٍ وَلَا حَاصِلٍ، الثَّانِي: يُرْوَى أَنَّ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ مُشَبِّهَةٌ فَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ النُّورُ الْأَعْظَمُ وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَنْوَارٌ صَغِيرَةٌ وَوَضَعُوا عَلَى صُورَةِ تِلْكَ الْأَنْوَارِ هَذِهِ الْأَوْثَانَ وَمَعْبُودُهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ تِلْكَ الْأَنْوَارُ السَّمَاوِيَّةُ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُشَبِّهَةِ فَإِنَّهُمْ تَصَوَّرُوا جِسْمًا كَبِيرًا مُسْتَقِرًّا عَلَى الْعَرْشِ وَيَعْبُدُونَهُ وَهَذَا الْمُتَخَيَّلُ غَيْرُ مَوْجُودٍ الْبَتَّةَ فَصَحَّ أَنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ إِلَّا مُجَرَّدَ الْأَسْمَاءِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِمَّنْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ قَالُوا نَحْنُ لَا نَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ آلِهَةٌ لِلْعَالَمِ بِمَعْنَى أَنَّهَا هِيَ الَّتِي خَلَقَتِ الْعَالَمَ إِلَّا أَنَّا نُطْلِقُ عَلَيْهَا اسْمَ الْإِلَهِ وَنَعْبُدُهَا وَنُعَظِّمُهَا لِاعْتِقَادِنَا أَنَّ اللَّه أَمَرَنَا بِذَلِكَ، فَأَجَابَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ، فَقَالَ أَمَّا تَسْمِيَتُهَا بِالْآلِهَةِ فَمَا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ وَمَا أَنْزَلَ فِي حُصُولِ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ حُجَّةً وَلَا بُرْهَانًا وَلَا دَلِيلًا وَلَا سُلْطَانًا، وَلَيْسَ لِغَيْرِ اللَّه حُكْمٌ وَاجِبُ الْقَبُولِ وَلَا أَمْرٌ وَاجِبُ الِالْتِزَامِ بَلِ الْحُكْمُ وَالْأَمْرُ وَالتَّكْلِيفُ لَيْسَ إِلَّا لَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَ أن ألا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ نِهَايَةُ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ فَلَا تَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ حَصَلَ منه نهاية الإنعام وهو الإله تعالى لأن مِنْهُ الْخَلْقُ وَالْإِحْيَاءُ وَالْعَقْلُ وَالرِّزْقُ وَالْهِدَايَةُ، وَنِعَمُ اللَّه كَثِيرَةٌ وَجِهَاتُ إِحْسَانِهِ إِلَى الْخَلْقِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، قَالَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ وَتَفْسِيرُهُ أَنَّ أَكْثَرَ الْخَلْقِ يُسْنِدُونَ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ الْأَرْضِيَّةِ إِلَى الِاتِّصَالَاتِ الْفَلَكِيَّةِ وَالْمُنَاسَبَاتِ الْكَوْكَبِيَّةِ لِأَجْلِ أَنَّهُ تَقَرَّرَ فِي الْعُقُولِ أَنَّ الْحَادِثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ فَإِذَا رَأَوْا أَنَّ تَغَيُّرَ أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، إِنَّمَا يَحْصُلُ عِنْدَ تَغَيُّرِ أَحْوَالِ الشَّمْسِ فِي أَرْبَاعِ الْفَلَكِ رَبَطُوا الْفُصُولَ الْأَرْبَعَةَ بِحَرَكَةِ الشَّمْسِ، ثُمَّ لَمَّا شَاهَدُوا أَنَّ أَحْوَالَ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ رَبَطُوا حُدُوثَ النَّبَاتِ وَتَغَيُّرَ أَحْوَالِ الْحَيَوَانِ بِاخْتِلَافِ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ غَلَبَ عَلَى طِبَاعِ أَكْثَرِ الْخَلْقِ أَنَّ الْمُدَبِّرَ لِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ فِي هَذَا الْعَالَمِ هُوَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَسَائِرُ الْكَوَاكِبِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى إِذَا وَفَّقَ إِنْسَانًا حَتَّى تَرَقَّى مِنْ هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَعَرَفَ أَنَّهَا فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute