للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذَلِكَ الْفَتَى أَنْ يَذْكُرَ يُوسُفَ لِلْمَلِكِ حَتَّى طَالَ الْأَمْرُ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ بِهَذَا السَّبَبِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا

رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «رَحِمَ اللَّه يُوسُفَ لَوْ لَمْ يَقُلِ اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ مَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ»

وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عُوقِبَ بِسَبَبِ رُجُوعِهِ إِلَى غَيْرِ اللَّه، وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ أَنَّهُ لَمَّا انْتَهَى إِلَى بَابِ السِّجْنِ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: مَا حَاجَتُكَ قَالَ: أَنْ تَذْكُرَنِي عِنْدَ رَبٍّ سِوَى الرَّبِّ الَّذِي قَالَ يُوسُفُ، وَعَنْ مَالِكٍ لَمَّا قَالَ يُوسُفُ لِلسَّاقِي اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ قِيلَ: يَا يُوسُفُ اتَّخَذْتَ مِنْ دُونِي وَكِيلًا لَأُطِيلَنَّ حَبْسَكَ فَبَكَى يُوسُفُ وَقَالَ: طُولُ الْبَلَاءِ أَنْسَانِي ذِكْرَ الْمَوْلَى فَقُلْتُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ فَوَيْلٌ لِإِخْوَتِي.

قَالَ مُصَنِّفُ الْكِتَابِ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ رَحِمَهُ اللَّه، وَالَّذِي جَرَّبْتُهُ مِنْ أَوَّلِ عُمْرِي إِلَى آخِرِهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ كُلَّمَا عَوَّلَ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ عَلَى غَيْرِ اللَّه صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا إِلَى الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ، وَالشِّدَّةِ وَالرَّزِيَّةِ، وَإِذَا عَوَّلَ الْعَبْدُ عَلَى اللَّه وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ حَصَلَ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ فَهَذِهِ التَّجْرِبَةُ قَدِ اسْتَمَرَّتْ لِي مِنْ أَوَّلِ عُمُرِي إِلَى هَذَا الْوَقْتِ الَّذِي بَلَغْتُ فِيهِ إِلَى السَّابِعِ وَالْخَمْسِينَ، فَعِنْدَ هَذَا اسْتَقَرَّ قَلْبِي عَلَى أَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ لِلْإِنْسَانِ فِي التَّعْوِيلِ عَلَى شَيْءٍ سِوَى فَضْلِ اللَّه تَعَالَى وَإِحْسَانِهِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ رَجَّحَ الْقَوْلَ الثَّانِيَ لِأَنَّ صَرْفَ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ أَوْلَى مَنْ صَرْفِهَا إِلَى يُوسُفَ الصِّدِّيقِ، وَلِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِالْعِبَادِ فِي التَّخَلُّصِ مِنَ الظُّلْمِ جَائِزَةٌ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَمَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ الثَّانِي تَمَسُّكٌ بِظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ وَمَا قَرَّرَهُ الْقَائِلُ الْأَوَّلُ تَمَسَّكَ بِأَسْرَارِ الْحَقِيقَةِ وَمَكَارِمِ الشَّرِيعَةِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ ذَوْقٌ فِي مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ وَشَرِبَ مِنْ مَشْرَبِ التَّوْحِيدِ عَرَفَ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَيْضًا فَفِي لَفْظِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَقَالَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَهُ لِرَبِّهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الِاسْتِعَانَةُ بِغَيْرِ اللَّه فِي دَفْعِ الظُّلْمِ جَائِزَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ لَا إِنْكَارَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُسْتَدْرَكًا مِنَ الْمُحَقِّقِينَ الْمُتَوَغِّلِينَ فِي بِحَارِ الْعُبُودِيَّةِ لَا جَرَمَ صَارَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُؤَاخَذًا/ بِهِ، وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ: الَّذِي يَصِيرُ مُؤَاخَذًا بِهَذَا الْقَدْرِ لَأَنْ يَصِيرَ مُؤَاخَذًا بِالْإِقْدَامِ عَلَى طَلَبِ الزِّنَا وَمُكَافَأَةِ الْإِحْسَانِ بِالْإِسَاءَةِ كَانَ أَوْلَى فَلَمَّا رَأَيْنَا اللَّه تَعَالَى آخَذَهُ بِهَذَا الْقَدْرِ، وَلَمْ يُؤَاخِذْهُ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْبَتَّةَ، وَمَا عَابَهُ بَلْ ذَكَرَهُ بِأَعْظَمِ وُجُوهِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ عَلِمْنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُبَرَّأً مِمَّا نَسَبَهُ الْجُهَّالُ وَالْحَشْوِيَّةُ إِلَيْهِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الشَّيْطَانُ يُمْكِنُهُ إِلْقَاءُ الْوَسْوَسَةِ، وَأَمَّا النِّسْيَانُ فَلَا، لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ إِزَالَةِ الْعِلْمِ عَنِ الْقَلْبِ، وَالشَّيْطَانُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا لَكَانَ قَدْ أَزَالَ مَعْرِفَةَ اللَّه تَعَالَى عَنْ قُلُوبِ بَنِي آدَمَ.

وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ يُمْكِنُهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بِوَسْوَسَتِهِ يَدْعُو إِلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ وَاشْتِغَالُ الْإِنْسَانِ بِسَائِرِ الْأَعْمَالِ يَمْنَعُهُ عَنِ اسْتِحْضَارِ ذَلِكَ الْعِلْمِ وَتِلْكَ الْمَعْرِفَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ فِيهِ بَحْثَانِ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: بِحَسَبِ اللُّغَةِ قَالَ الزَّجَّاجُ: اشْتِقَاقُهُ مِنْ بَضَعْتُ بِمَعْنَى قَطَعْتُ وَمَعْنَاهُ الْقِطْعَةُ مِنَ الْعَدَدِ قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَا يُذْكَرُ الْبِضْعُ إِلَّا مَعَ عَشَرَةٍ أَوْ عِشْرِينَ إِلَى التِّسْعِينَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِمَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى التِّسْعَةِ، وَقَالَ هَكَذَا رَأَيْتُ الْعَرَبَ يَقُولُونَ وَمَا رَأَيْتُهُمْ يَقُولُونَ بِضْعَ وَمِائَةً،

وَرَوَى الشَّعْبِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ عليه

<<  <  ج: ص:  >  >>