رَبِّكَ
لِيَظْهَرَ أَيْضًا هَذَا الْمَعْنَى لِذَلِكَ الشَّرَابِيِّ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ وَاسِطَةً فِي الْحَالَتَيْنِ معا.
أما قوله: فَسْئَلْهُ مَا بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ فسله بغير همز والباقون فَسْئَلْهُ بِالْهَمْزِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِرِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ عَنْهُ النِّسْوَةِ بِضَمِّ النُّونِ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِ النُّونِ، وَهُمَا لُغَتَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِيهَا أَنْوَاعٌ مِنَ اللَّطَائِفِ: أَوَّلُهَا: أَنَّ مَعْنَى الآية: فسل الملك يأن يَسْأَلَ مَا شَأْنُ تِلْكَ النِّسْوَةِ وَمَا حَالُهُنَّ لِيَعْلَمَ بَرَاءَتِي عَنْ تِلْكَ التُّهْمَةِ، إِلَّا أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى أَنْ يَسْأَلَ الْمَلِكَ عَنْ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ لِئَلَّا يَشْتَمِلَ اللَّفْظُ عَلَى مَا يَجْرِي مَجْرَى أَمْرِ الْمَلِكِ بِعَمَلٍ أَوْ فِعْلٍ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ سَيِّدَتَهُ مَعَ أَنَّهَا هِيَ الَّتِي سَعَتْ فِي إِلْقَائِهِ فِي السِّجْنِ الطَّوِيلِ، بَلِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ سَائِرِ النِّسْوَةِ. وَثَالِثُهَا: أن الظاهر أن أولئك النسوة نسبته إِلَى عَمَلٍ قَبِيحٍ وَفِعْلٍ شَنِيعٍ عِنْدَ الْمَلِكِ، فَاقْتَصَرَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مُجَرَّدِ قَوْلِهِ: مَا بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَمَا شَكَا مِنْهُنَّ عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ وَالتَّفْصِيلِ. ثُمَّ قَالَ يُوسُفُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ وَفِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ رَبِّي وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ هُوَ اللَّه تَعَالَى، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْعَالِمُ بِخَفِيَّاتِ الْأُمُورِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ الْمَلِكُ وَجَعَلَهُ رَبًّا لِنَفْسِهِ لِكَوْنِهِ مُرَبِّيًا وله وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْمَلِكِ عَالِمًا بِكَيْدِهِنَّ وَمَكْرِهِنَّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كَيْدَهُنَّ فِي حَقِّهِ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رُبَّمَا طَمِعَتْ فِيهِ، / فَلَمَّا لَمْ تَجِدِ الْمَطْلُوبَ أَخَذَتْ تَطْعَنُ فِيهِ وَتَنْسُبُهُ إِلَى الْقَبِيحِ. وَثَانِيهَا: لَعَلَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بَالَغَتْ فِي تَرْغِيبِ يُوسُفَ فِي مُوَافَقَةِ سَيِّدَتِهِ عَلَى مُرَادِهَا، وَيُوسُفُ عَلِمَ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْخِيَانَةِ فِي حَقِّ السَّيِّدِ الْمُنْعِمِ لَا تَجُوزُ، فَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ إِلَى مُبَالَغَتِهِنَّ فِي التَّرْغِيبِ فِي تِلْكَ الْخِيَانَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ اسْتَخْرَجَ مِنْهُنَّ وُجُوهًا مِنَ الْمَكْرِ وَالْحِيَلَ فِي تَقْبِيحِ صُورَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ الْمَلِكِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ ذَاكَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَمَّا الْتَمَسَ ذَلِكَ، أَمَرَ الْمَلِكُ بِإِحْضَارِهِنَّ وَقَالَ لَهُنَّ: مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ الْجَمْعِ، فَالْمُرَادُ مِنْهَا الْوَاحِدَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: ١٧٣] وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ خِطَابُ الجماعة. ثم هاهنا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رَاوَدَتْ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رَاوَدَتْ يُوسُفَ لِأَجْلِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ فَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَعِنْدَ هَذَا السُّؤَالِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ وَهَذَا كَالتَّأْكِيدِ لَمَّا ذَكَرْنَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ قَوْلُهُنَّ: مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ كَانَتْ حَاضِرَةً، وَكَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْمُنَاظَرَاتِ وَالتَّفَحُّصَاتِ إِنَّمَا وَقَعَتْ بِسَبَبِهَا وَلِأَجْلِهَا فَكَشَفَتْ عَنِ الْغِطَاءِ وَصَرَّحَتْ بِالْقَوْلِ الْحَقِّ وَقَالَتْ: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ شَهَادَةٌ جَازِمَةٌ مِنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ بِأَنَّ يُوسُفَ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ كَانَ مُبَرَّأً عَنْ كُلِّ الذُّنُوبِ مُطَهَّرًا عَنْ جَمِيعِ العيوب، وهاهنا دَقِيقَةٌ، وَهِيَ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَاعَى جَانِبَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ حَيْثُ قَالَ: مَا بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ فَذَكَرَهُنَّ وَلَمْ يَذْكُرْ تِلْكَ الْمَرْأَةَ الْبَتَّةَ فَعَرَفَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ إِنَّمَا تَرَكَ ذِكْرَهَا رِعَايَةً
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute