فَقَالَ: وَضَعَهُ فِي رَحْلِي مَنْ وَضَعَ الْبِضَاعَةَ فِي رِحَالِكُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ قَالُوا لِلْمَلِكِ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَيْسَ بِغَرِيبٍ مِنْهُ فَإِنَّ أَخَاهُ الَّذِي هَلَكَ كَانَ أَيْضًا سَارِقًا، وَكَانَ غَرَضُهُمْ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّا لَسْنَا عَلَى طَرِيقَتِهِ وَلَا عَلَى سِيرَتِهِ، وَهُوَ وَأَخُوهُ مُخْتَصَّانِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ لِأَنَّهُمَا مِنْ أُمٍّ أُخْرَى، وَاخْتَلَفُوا فِي السَّرِقَةِ الَّتِي نَسَبُوهَا إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ جَدُّهُ أَبُو أُمِّهِ كَافِرًا يَعْبُدُ الْأَوْثَانَ فَأَمَرَتْهُ/ أُمُّهُ بِأَنْ يَسْرِقَ تِلْكَ الْأَوْثَانَ وَيَكْسِرَهَا فَلَعَلَّهُ يَتْرُكُ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَهَذَا هُوَ السَّرِقَةُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يَسْرِقُ الطَّعَامَ مِنْ مَائِدَةِ أَبِيهِ وَيَدْفَعُهُ إِلَى الْفُقَرَاءِ، وَقِيلَ سَرَقَ عَنَاقًا مِنْ أَبِيهِ وَدَفَعَهُ إِلَى الْمِسْكِينِ وَقِيلَ دَجَاجَةٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ عَمَّتَهُ كَانَتْ تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا فَأَرَادَتْ أَنْ تُمْسِكَهُ عِنْدَ نَفْسِهَا، وَكَانَ قَدْ بَقِيَ عِنْدَهَا مِنْطَقَةٌ لِإِسْحَاقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِهَا فَشَدَّتْهَا عَلَى وَسَطِ يُوسُفَ ثُمَّ قَالَتْ بِأَنَّهُ سَرَقَهَا وَكَانَ مِنْ حُكْمِهِمْ بِأَنَّ مَنْ سَرَقَ يُسْتَرَقُّ، فَتَوَسَّلَتْ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ إِلَى إِمْسَاكِهِ عِنْدَ نَفْسِهَا.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمْ كَذَبُوا عَلَيْهِ وَبَهَتُوهُ وَكَانَتْ قُلُوبُهُمْ مَمْلُوءَةً بِالْغَضَبِ عَلَى يُوسُفَ بَعْدَ تِلْكَ الْوَقَائِعِ، وَبَعْدَ انْقِضَاءِ تِلْكَ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ، وَهَذِهِ الْوَاقِعَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَلْبَ الْحَاسِدِ لَا يَطْهُرُ عَنِ الْغِلِّ الْبَتَّةَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فَأَسَرَّها يُوسُفُ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ يَعُودُ عَلَى قَوْلَيْنِ قَالَ الزَّجَّاجُ: فَأَسَرَّهَا إِضْمَارٌ عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ، تَفْسِيرُهُ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَإِنَّمَا أُنِّثَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً جُمْلَةٌ أَوْ كَلِمَةٌ لِأَنَّهُمْ يُسَمُّونَ الطَّائِفَةَ مِنَ الْكَلَامِ كَلِمَةً كَأَنَّهُ قَالَ: فَأَسَرَّ الْجُمْلَةَ أَوِ الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَأَسَرَّ بِالتَّذْكِيرِ يُرِيدُ الْقَوْلَ أَوِ الْكَلَامَ وَطَعَنَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فِي هَذَا الْوَجْهِ فِيمَا اسْتَدْرَكَهُ عَلَى الزَّجَّاجِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْإِضْمَارُ عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ يَكُونُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُفَسَّرَ بِمُفْرَدٍ كَقَوْلِنَا: نِعْمَ رَجُلًا زَيْدٌ فَفِي نِعْمَ ضَمِيرُ فَاعِلِهَا، وَرَجُلًا تَفْسِيرٌ لِذَلِكَ الْفَاعِلِ الْمُضْمَرِ وَالْآخَرُ أَنْ يُفَسَّرَ بِجُمْلَةٍ وَأَصْلُ هَذَا يَقَعُ فِي الِابْتِدَاءِ كَقَوْلِهِ: فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْأَنْبِيَاءِ: ٩٧] قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الْإِخْلَاصِ: ١] وَالْمَعْنَى الْقِصَّةُ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَالْأَمْرُ اللَّه أَحَدٌ. ثُمَّ إِنَّ الْعَوَامِلَ الدَّاخِلَةَ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ تَدْخُلُ عَلَيْهِ أَيْضًا نَحْوَ إِنَّ كَقَوْلِهِ: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً [طه: ٧٤] فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ [الْحَجِّ: ٤٦] .
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: نَفْسُ الْمُضْمَرِ عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ فِي كِلَا الْقِسْمَيْنِ مُتَّصِلٌ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي حَصَلَ مِنْهَا الْإِضْمَارُ، وَلَا يَكُونُ خَارِجًا عَنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ وَلَا مباينا لها. وهاهنا التَّفْسِيرُ مُنْفَصِلٌ عَنِ الْجُمْلَةِ الَّتِي حَصَلَ مِنْهَا الْإِضْمَارُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْسُنَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ، وَلَوْ قُلْنَا: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَضْمَرَ هَذَا الْكَلَامَ لَكَانَ قَوْلُهُ إِنَّهُ قَالَ ذَلِكَ كَذِبًا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الطَّعْنَ ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ:
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ حُسْنِ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ قُبْحُ قِسْمٍ ثَالِثٍ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّا نَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَسْقُطُ هَذَا السُّؤَالُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فَأَسَرَّها عَائِدٌ إِلَى الْإِجَابَةِ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّ يُوسُفُ إِجَابَتَهُمْ فِي نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ إِلَى وَقْتٍ ثَانٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute