كان على وجه الأرض عبدا أَكْرَمَ عَلَى اللَّه تَعَالَى مِنْ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنَ الْحُزْنِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ قُرِئَ مِنَ الْحُزْنِ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالزَّايِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَاخْتَلَفُوا فِي الْحُزْنِ وَالْحَزَنِ فَقَالَ قَوْمٌ: الْحُزْنُ الْبُكَاءُ وَالْحَزَنُ ضِدُّ الْفَرَحِ، وَقَالَ قَوْمٌ: هُمَا لُغَتَانِ يُقَالُ أَصَابَهُ حُزْنٌ شَدِيدٌ، وَحَزَنٌ شَدِيدٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَرَوَى يُونُسُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو قَالَ: إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ فَتَحُوا الْحَاءَ وَالزَّايَ كَقَوْلِهِ: تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً [التَّوْبَةِ: ٩٢] وَإِذَا كَانَ فِي مَوْضِعِ الْخَفْضِ أَوِ الرَّفْعِ ضموا الحاء كقوله: مِنَ الْحُزْنِ وقوله: شْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
قَالَ هُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهُوَ كَظِيمٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْكَاظِمِ وَهُوَ الْمُمْسِكُ عَلَى حُزْنِهِ فَلَا يُظْهِرُهُ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَكْظُومِ، وَمَعْنَاهُ الْمَمْلُوءُ مِنَ الْحُزْنِ مَعَ سَدِّ طَرِيقِ نَفَسِهِ الْمَصْدُورُ مِنْ كَظْمِ السِّقَاءِ إِذَا اشْتَدَّ عَلَى مَلْئِهِ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مَمْلُوءٍ مِنَ الْغَيْظِ عَلَى أَوْلَادِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَشْرَفَ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهَا كَانَتْ غَرِيقَةً فِي الْغَمِّ فَاللِّسَانُ كَانَ مَشْغُولًا بقوله: يا أَسَفى وَالْعَيْنُ بِالْبُكَاءِ وَالْبَيَاضِ وَالْقَلْبُ بِالْغَمِّ الشَّدِيدِ الَّذِي يُشْبِهُ الْوِعَاءَ الْمَمْلُوءَ الَّذِي شُدَّ وَلَا يُمْكِنُ خروج الماء منه وهذا مُبَالَغَةٌ فِي وَصْفِ ذَلِكَ الْغَمِّ.
أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ يُقَالُ: مَا زِلْتُ أَفْعَلُهُ وَمَا فَتِئْتُ أَفْعَلُهُ وَمَا بَرِحْتُ أَفْعَلُهُ وَلَا يُتَكَلَّمُ بِهِنَّ إِلَّا مَعَ الْجَحْدِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ يُقَالُ: مَا فَتِيتُ وَمَا فَتِئْتُ لُغَتَانِ فَتْيًا وفتوا إِذَا نَسِيتَهُ وَانْقَطَعْتَ عَنْهُ قَالَ النَّحْوِيُّونَ وَحَرْفُ النفي هاهنا مضمر على معنى قالوا: ما تفتؤا وَلَا تَفْتَؤُ وَجَازَ حَذْفُهُ لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ الْإِثْبَاتُ لَكَانَ بِاللَّامِ وَالنُّونِ نَحْوُ واللَّه لَتَفْعَلَنَّ فَلَمَّا كَانَ بِغَيْرِ اللَّامِ وَالنُّونِ عُرِفَ أَنَّ كَلِمَةَ لَا مُضْمَرَةٌ وَأَنْشَدُوا قَوْلَ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَقُلْتُ يَمِينُ اللَّه أَبْرَحُ قَاعِدًا
وَالْمَعْنَى: لَا أَبْرَحُ قَاعِدًا وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَأَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ لَا تَزَالُ تَذْكُرُهُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ لَا تَفْتُرُ مِنْ حُبِّهِ كَأَنَّهُ جَعَلَ الْفُتُورَ وَالْفُتُوءَ أَخَوَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ أَهْلِ الْمَعَانِي أَنَّ أَصْلَ الْحَرَضِ فَسَادُ الْجِسْمَ وَالْعَقْلِ لِلْحُزْنِ وَالْحُبِّ، وَقَوْلُهُ: حَرَّضْتُ فُلَانًا عَلَى فُلَانٍ تَأْوِيلُهُ أَفْسَدْتُهُ وَأَحْمَيْتُهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ تَعَالَى: حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ [الْأَنْفَالِ: ٦٥] .
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: وَصْفُ الرَّجُلِ بِأَنَّهُ حَرِضٌ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِإِرَادَةِ أَنَّهُ ذُو حَرَضٍ فَحُذِفَ الْمُضَافُ أَوْ لِإِرَادَةِ أَنَّهُ لَمَّا تَنَاهَى فِي الْفَسَادِ وَالضَّعْفِ فَكَأَنَّهُ صَارَ عَيْنَ الْحَرَضِ وَنَفْسَ الْفَسَادِ. وَأَمَّا الْحَرِضُ بِكَسْرِ الرَّاءِ فَهُوَ الصِّفَةُ وَجَاءَتِ الْقِرَاءَةُ بِهِمَا مَعًا.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ عِبَارَاتٌ: أَحَدُهَا: الْحَرَضُ وَالْحَارِضُ هُوَ الْفَاسِدُ فِي جِسْمِهِ وَعَقْلِهِ.
وَثَانِيهِمَا: سَأَلَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْحَرَضِ فَقَالَ: الْفَاسِدُ الدَّنِفُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ الَّذِي يَكُونُ لَا