للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عَنْ هَمْزَةٍ فَلِأَنَّهَا قِطْعَةٌ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَالسُّورَةِ الَّتِي هِيَ الْبَقِيَّةُ مِنَ الشَّيْءِ وَالْفَضْلَةُ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ فَمَا فَائِدَةُ تَقْطِيعِ الْقُرْآنِ سُوَرًا قُلْنَا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَا لِأَجْلِهِ بَوَّبَ الْمُصَنِّفُونَ كُتُبَهُمْ أَبْوَابًا وَفُصُولًا. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْجِنْسَ إِذَا حَصَلَ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ كَانَ إِفْرَادُ كُلِّ نَوْعٍ عَنْ صَاحِبِهِ أَحْسَنَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْقَارِئَ إِذَا خَتَمَ سُورَةً أَوْ بَابًا مِنَ الْكِتَابِ ثُمَّ أَخَذَ فِي آخَرَ كَانَ أَنْشَطَ لَهُ وَأَثْبَتَ عَلَى التَّحْصِيلِ مِنْهُ لَوِ اسْتَمَرَّ عَلَى الْكِتَابِ بِطُولِهِ، وَمِثْلُهُ الْمُسَافِرُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ قَطَعَ مِيلًا أَوْ طَوَى فَرْسَخًا نَفَّسَ ذَلِكَ عَنْهُ وَنَشَّطَهُ لِلسَّيْرِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْحَافِظَ إِذَا حَفِظَ السُّورَةَ اعْتَقَدَ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ طَائِفَةً مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا فَيُجِلُّ فِي نَفْسِهِ ذَلِكَ وَيَغْتَبِطُ بِهِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ بِسُورَةٍ تَامَّةٍ أَفْضَلَ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِهِ سُوَرًا هُوَ عَلَى حَدِّ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِخِلَافِ قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ: إِنَّهُ نُظِمَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ فِي أَيَّامِ عُثْمَانَ فَلِذَلِكَ صَحَّ التَّحَدِّي مَرَّةً بِسُورَةٍ وَمَرَّةً بِكُلِّ الْقُرْآنِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ التَّحَدِّيَ بِالْقُرْآنِ جَاءَ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى [الْقَصَصِ: ٤٩] . وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الْإِسْرَاءِ: ٨٨] . وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [هُودٍ: ١٣] وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَنَظِيرُ هَذَا كَمَنَ يَتَحَدَّى صَاحِبَهُ بِتَصْنِيفِهِ فَيَقُولُ ائْتِنِي بِمِثْلِهِ، ائْتِنِي بِنِصْفِهِ، ائْتِنِي بِرُبْعِهِ، ائْتِنِي بِمَسْأَلَةٍ مِنْهُ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي التَّحَدِّي وَإِزَالَةِ الْعُذْرِ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ يَتَنَاوَلُ سُورَةَ الْكَوْثَرِ، وَسُورَةَ الْعَصْرِ وَسُورَةَ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ أَوْ بِمَا يَقْرُبُ مِنْهُ مُمْكِنٌ فَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّ الْإِتْيَانَ بِأَمْثَالِ هَذِهِ السُّوَرِ خَارِجٌ عَنْ مَقْدُورِ الْبَشَرِ كَانَ ذَلِكَ مُكَابَرَةً وَالْإِقْدَامُ عَلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْمُكَابِرَاتِ مِمَّا يَطْرُقُ التُّهْمَةَ إِلَى الدِّينِ، قُلْنَا فَلِهَذَا السَّبَبِ اخْتَرْنَا الطَّرِيقَ الثَّانِيَ، وَقُلْنَا إِنْ بَلَغَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي الْفَصَاحَةِ إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ امْتِنَاعُهُمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ مَعَ شِدَّةِ دَوَاعِيهِمْ إِلَى تَوْهِينِ أَمْرِهِ مُعْجِزًا. فَعَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ يَحْصُلُ الْمُعْجِزُ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ مِثْلِهِ إِلَى مَاذَا يَعُودُ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى «مَا» فِي قَوْلِهِ: مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا أَيْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِمَّا هُوَ عَلَى صِفَتِهِ فِي الْفَصَاحَةِ وَحُسْنِ النَّظْمِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى «عَبْدِنَا» أَيْ فَأْتُوا مِمَّنْ هُوَ عَلَى حَالِهِ مِنْ كَوْنِهِ بَشَرًا أُمِّيًّا لَمْ يَقْرَأِ الْكُتُبَ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْأَوَّلُ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَأَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ، وَيَدُلُّ عَلَى التَّرْجِيحِ لَهُ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ مُطَابِقٌ لِسَائِرِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي بَابِ التَّحَدِّي لَا سِيَّمَا مَا ذَكَرَهُ فِي يُونُسَ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يُونُسَ: ٣٨] . وَثَانِيهَا: أَنَّ الْبَحْثَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي الْمُنَزَّلِ لِأَنَّهُ قَالَ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا فَوَجَبَ صَرْفُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى وَإِنِ ارْتَبْتُمْ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهَاتُوا شَيْئًا مِمَّا يُمَاثِلُهُ وَقَضِيَّةُ التَّرْتِيبِ لَوْ كَانَ الضَّمِيرُ مَرْدُودًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقال: وإن ارتبتم في أن محمد مُنَزَّلٌ عَلَيْهِ فَهَاتُوا قُرْآنًا مِنْ مِثْلِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الضَّمِيرَ لَوْ كَانَ عَائِدًا إِلَى الْقُرْآنِ لَاقْتَضَى كَوْنَهُمْ عَاجِزِينَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ سَوَاءً اجْتَمَعُوا أَوِ انْفَرَدُوا وَسَوَاءً كَانُوا أُمِّيِّينَ أَوْ كَانُوا عَالِمِينَ مُحَصِّلِينَ، أَمَّا لَوْ كَانَ عَائِدًا إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي إِلَّا كَوْنَ أَحَدِهِمْ مِنَ الْأُمِّيِّينَ عَاجِزِينَ عَنْهُ لِأَنَّهُ