للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النوع الثاني: من الدلائل المذكورة في هذه الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : السَّحَابُ اسْمُ جِنْسٍ وَالْوَاحِدَةُ سَحَابَةٌ وَالثِّقَالُ جَمْعُ ثَقِيلَةٍ لِأَنَّكَ تَقُولُ سَحَابَةٌ ثَقِيلَةٌ وَسَحَابٌ ثِقَالٌ كَمَا تَقُولُ امْرَأَةٌ كَرِيمَةٌ وَنِسَاءٌ كِرَامٌ وَهِيَ الثِّقَالُ بِالْمَاءِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا أَيْضًا مِنْ دَلَائِلِ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ الْمَائِيَّةَ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا حَدَثَتْ فِي جَوِّ الْهَوَاءِ أَوْ يُقَالُ إِنَّهَا تَصَاعَدَتْ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُدُوثُهَا بِإِحْدَاثِ مُحْدِثٍ حَكِيمٍ قَادِرٍ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ تَصَاعَدَتْ مِنَ الْأَرْضِ فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَى الطَّبَقَةِ الْبَارِدَةِ مِنَ الْهَوَاءِ بَرَدَتْ فَثَقُلَتْ فَرَجَعَتْ إِلَى الْأَرْضِ فَنَقُولُ هَذَا بَاطِلٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْطَارَ مُخْتَلِفَةٌ فَتَارَةً تَكُونُ الْقَطَرَاتُ كَبِيرَةً وَتَارَةً تَكُونُ صَغِيرَةً وَتَارَةً تَكُونُ مُتَقَارِبَةً، وَأُخْرَى تَكُونُ مُتَبَاعِدَةً وَتَارَةً تَدُومُ مُدَّةَ نُزُولِ الْمَطَرِ زَمَانًا طَوِيلًا وَتَارَةً قَلِيلًا فَاخْتِلَافُ الْأَمْطَارِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ مَعَ أَنَّ طَبِيعَةَ الْأَرْضِ وَاحِدَةٌ، وَطَبِيعَةَ الشَّمْسِ الْمُسَخِّنَةِ لِلْبُخَارَاتِ وَاحِدَةٌ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ وو أيضا فَالتَّجْرِبَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ لِلدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ فِي نُزُولِ الْغَيْثِ أَثَرًا عَظِيمًا وَلِذَلِكَ كَانَتْ صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ مَشْرُوعَةً، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِيهِ هُوَ قُدْرَةُ الْفَاعِلِ لَا الطَّبِيعَةُ وَالْخَاصِّيَّةُ.

النوع الثَّالِثُ: مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الرَّعْدُ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَفِيهِ أَقْوَالٌ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّعْدَ اسْمُ مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهَذَا الصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ هُوَ صَوْتُ ذَلِكَ الْمَلَكِ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرَّعْدِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: «مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ مَعَهُ مَخَارِيقُ مِنْ نَارٍ يَسُوقُ بِهَا السَّحَابَ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ» . قَالُوا: فَمَا الصَّوْتُ الَّذِي نَسْمَعُ؟ قَالَ:

«زَجْرُهُ السَّحَابَ»

وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لَيْسَ بِمَلَكٍ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الرَّعْدُ هُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالسَّحَابِ وَصَوْتُهُ تَسْبِيحٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ الصَّوْتُ أَيْضًا يُسَمَّى بِالرَّعْدِ وَيُؤَكِّدُ هَذَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ قَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي سَبَّحْتَ لَهُ.

وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ فَيَنْطِقُ أَحْسَنَ النُّطْقِ وَيَضْحَكُ أَحْسَنَ الضَّحِكِ فَنُطْقُهُ الرَّعْدُ وَضَحِكُهُ الْبَرْقُ» .

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ الْبِنْيَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا لِحُصُولِ الْحَيَاةِ فَلَا يَبْعُدُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَخْلُقَ الْحَيَاةَ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَالنُّطْقَ فِي أَجْزَاءِ السَّحَابِ فَيَكُونُ هَذَا الصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ فِعْلًا لَهُ وَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ ذَلِكَ ونحن نرى ن السَّمَنْدَلَ يَتَوَلَّدُ فِي النَّارِ، وَالضَّفَادِعَ تَتَوَلَّدُ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ، وَالدُّودَةَ الْعَظِيمَةِ رُبَّمَا تَتَوَلَّدُ فِي الثُّلُوجِ الْقَدِيمَةِ، وَأَيْضًا فَإِذَا لَمْ يَبْعُدْ تَسْبِيحُ الْجِبَالِ فِي زَمَنِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا تَسْبِيحُ الْحَصَى فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ تَسْبِيحُ السَّحَابِ» وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهَذَا الشَّيْءُ الْمُسَمَّى بِالرَّعْدِ مَلَكٌ أَوْ لَيْسَ/ بِمَلَكٍ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِمَلَكٍ لِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ، فَقَالَ: وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ وَإِنَّمَا إِفْرَادُهُ بِالذِّكْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: ٩٨] وَفِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الْأَحْزَابِ: ٧] .

<<  <  ج: ص:  >  >>