للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عَلَى الْحَقِّ، وَفِي أَمْرِهِمْ أَنْ يَسْتَظْهِرُوا بِالْجَمَادِ الَّذِي لَا يَنْطِقُ فِي مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ بِفَصَاحَتِهِ غَايَةُ التَّهَكُّمِ بِهِمْ، وَالثَّانِي: ادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ مِنْ دُونِ أَوْلِيَائِهِ وَمِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَشْهَدُوا لَكُمْ أَنَّكُمْ أَتَيْتُمْ بِمِثْلِهِ، وَهَذَا مِنَ الْمُسَاهَلَةِ وَالْإِشْعَارِ بِأَنَّ شُهَدَاءَهُمْ وَهُمْ فُرْسَانُ الْفَصَاحَةِ تَأْبَى عَلَيْهِمُ الطَّبَائِعُ السَّلِيمَةُ أَنْ يَرْضَوْا لِأَنْفُسِهِمْ بِالشَّهَادَةِ الْكَاذِبَةِ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ مُتَعَلِّقَهُ هُوَ الدُّعَاءُ، وَالْمَعْنَى ادْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُهَدَاءَكُمْ، يَعْنِي لَا تَسْتَشْهِدُوا بِاللَّهِ وَلَا تَقُولُوا اللَّهُ يَشْهَدُ أَنَّ مَا نَدَّعِيهِ حَقٌّ، كَمَا يَقُولُ الْعَاجِزُ عَنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ، وَادْعُوا الشُّهَدَاءَ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ شَهَادَتُهُمْ بَيِّنَةٌ تُصَحَّحُ بِهَا الدَّعَاوَى عِنْدَ الْحُكَّامِ، وَهَذَا تَعْجِيزٌ لَهُمْ وَبَيَانٌ لِانْقِطَاعِهِمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مُتَشَبَّثٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّا لَصَادِقُونَ.

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ الْقَاضِي هَذَا التَّحَدِّي يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِالْجَبْرِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَعَذُّرِ مِثْلِهِ مِمَّنْ يَصِحُّ الْفِعْلُ مِنْهُ، فَمَنْ يَنْفِي كَوْنَ الْعَبْدِ فَاعِلًا لَمْ يُمْكِنْهُ إِثْبَاتُ التَّحَدِّي أَصْلًا وَفِي هَذَا إِبْطَالُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْمُعْجِزِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ تَعَذُّرَهُ عَلَى قَوْلِهِمْ يَكُونُ لِفَقْدِ الْقُدْرَةِ/ الْمُوجِبَةِ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ مَا يَكُونُ مُعْجِزًا. وَمَا لَا يَكُونُ فَلَا يَصِحُّ مَعْنَى التَّحَدِّي عَلَى قَوْلِهِمْ وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَا يُضَافُ إِلَى الْعَبْدِ فَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لَهُ فَتَحَدِّيهِ تَعَالَى لَهُمْ يَعُودُ فِي التَّحْقِيقِ إِلَى أَنَّهُ مُتَحَدٍّ لِنَفْسِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَثْبُتَ الْإِعْجَازُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمُعْجِزَ إِنَّمَا يَدُلُّ بِمَا فِيهِ مِنْ نَقْضِ الْعَادَةِ، فَإِذَا كَانَ قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْمُعْتَادَ أَيْضًا لَيْسَ بِفِعْلٍ لَمْ يَثْبُتْ هَذَا الْفَرْقُ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِالْمُعْجِزِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَجُّ بِأَنَّهُ تَعَالَى خَصَّهُ بِذَلِكَ تَصْدِيقًا لَهُ فِيمَا ادَّعَاهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي الْإِعْجَازِ. وَعَلَى قَوْلِهِمْ بِالْجَبْرِ لَا يَصِحُّ هَذَا الْفَرْقُ، لِأَنَّ الْمُعْتَادَ وَغَيْرَ الْمُعْتَادِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ قِبَلِهِ، وَالْجَوَابُ. أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ التَّحَدِّي إِمَّا أَنْ يَأْتِيَ الْخَصْمُ بِالْمُتَحَدَّى بِهِ قَصْدًا أَوْ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ اتِّفَاقًا، وَالثَّانِي بَاطِلٌ، لِأَنَّ الِاتِّفَاقِيَّاتِ لَا تَكُونُ فِي وُسْعِهِ، فَثَبَتَ الْأَوَّلُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ إِتْيَانَهُ بِالتَّحَدِّي مَوْقُوفٌ عَلَى أَنْ يَحْصُلَ فِي قَلْبِهِ قَصْدٌ إِلَيْهِ، فَذَلِكَ الْقَصْدُ إِنْ كَانَ مِنْهُ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْجَبْرُ وَيَلْزَمُهُ كُلُّ مَا أَوْرَدَهُ عَلَيْنَا فَيَبْطُلُ كُلُّ مَا قَالَ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى الْمُعْجِزِ مِنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّا نَعْلَمُ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا فِي غَايَةِ الْعَدَاوَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي غَايَةِ الْحِرْصِ عَلَى إِبْطَالِ أَمْرِهِ، لِأَنَّ مُفَارَقَةَ الْأَوْطَانِ وَالْعَشِيرَةِ وَبَذْلَ النُّفُوسِ وَالْمُهَجِ مِنْ أَقْوَى مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا انْضَافَ إِلَيْهِ مِثْلُ هَذَا التَّقْرِيعِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَلَوْ كَانَ فِي وُسْعِهِمْ وَإِمْكَانِهِمِ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ أَوْ بِمِثْلِ سُورَةٍ مِنْهُ لَأَتَوْا بِهِ، فَحَيْثُ مَا أَتَوْا بِهِ ظَهَرَ الْمُعْجِزُ. وَثَانِيهَا: وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ كَانَ مُتَّهَمًا عِنْدَهُمْ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالنُّبُوَّةِ فَقَدْ كَانَ مَعْلُومَ الْحَالِ فِي وُفُورِ الْعَقْلِ وَالْفَضْلِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالْعَوَاقِبِ، فَلَوْ تَطَرَّقَتِ التُّهْمَةُ إِلَى مَا ادَّعَاهُ مِنَ النُّبُوَّةِ لَمَا اسْتَجَازَ أَنْ يَتَحَدَّاهُمْ وَيَبْلُغَ فِي التَّحَدِّي إِلَى نِهَايَتِهِ، بَلْ كَانَ يَكُونُ وَجِلًا خَائِفًا مِمَّا يَتَوَقَّعُهُ مِنْ فَضِيحَةٍ يَعُودُ وَبَالُهَا عَلَى جَمِيعِ أُمُورِهِ، حَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَوْلَا مَعْرِفَتُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنِ الْمُعَارَضَةِ لَمَا جَوَّزَ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى الْمُعَارَضَةِ بِأَبْلَغِ الطُّرُقِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَاطِعًا بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ لَمَا قَطَعَ فِي الْخَبَرِ بِأَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَاطِعًا بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ كَانَ يَجُوزُ خِلَافُهُ، وَبِتَقْدِيرِ وُقُوعِ خِلَافِهِ يَظْهَرُ كَذِبُهُ، فَالْمُبْطِلُ الْمُزَوِّرُ الْبَتَّةَ لَا يَقْطَعُ فِي الْكَلَامِ وَلَا يَجْزِمُ بِهِ، فَلَمَّا