للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَوْلُهُ: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَفِي مَعْنَاهُ قولان: الأول: أن المراد باليد والفم الجارحتان الْمَعْلُومَتَانِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا شَيْءٌ غَيْرُ هَاتَيْنِ الْجَارِحَتَيْنِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُمَا مَجَازًا وَتَوَسُّعًا. أَمَّا مَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:

الوجه الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي أَيْدِيَهُمْ وأَفْواهِهِمْ عَائِدًا إِلَى الْكُفَّارِ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ احْتِمَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكُفَّارَ رَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ فَعَضُّوهَا مِنَ الْغَيْظِ وَالضَّجَرِ مِنْ شِدَّةِ نَفْرَتِهِمْ عَنْ رُؤْيَةِ الرُّسُلِ وَاسْتِمَاعِ كَلَامِهِمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [آلِ عِمْرَانَ: ١١٩] وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا كَلَامَ الْأَنْبِيَاءِ عَجِبُوا مِنْهُ وَضَحِكُوا عَلَى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ رَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ غَلَبَهُ الضَّحِكُ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ مُشِيرِينَ بِذَلِكَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ أَنْ كُفُّوا عَنْ هَذَا الْكَلَامِ وَاسْكُتُوا عَنْ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ الْكَلْبِيِّ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمْ أَشَارُوا بِأَيْدِيهِمْ إِلَى أَلْسِنَتِهِمْ وَإِلَى مَا تَكَلَّمُوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ، أَيْ هَذَا هُوَ الْجَوَابُ عِنْدَنَا عَمَّا ذَكَرْتُمُوهُ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا غَيْرُهُ إِقْنَاطًا لَهُمْ مِنَ التَّصْدِيقِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ.

الوجه الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرَانِ رَاجِعَيْنِ إِلَى الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكُفَّارَ أَخَذُوا أَيْدِيَ الرُّسُلِ وَوَضَعُوهَا عَلَى أَفْوَاهِهِمْ لِيُسْكِتُوهُمْ وَيَقْطَعُوا كَلَامَهُمْ. الثَّانِي: أَنَّ الرُّسُلَ لَمَّا أَيِسُوا مِنْهُمْ سَكَتُوا وَوَضَعُوا أَيْدِيَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى أَفْوَاهِ أَنْفُسِهِمْ فَإِنَّ مَنْ ذَكَرَ كَلَامًا عِنْدَ قَوْمٍ وَأَنْكَرُوهُ وَخَافَهُمْ، فَذَلِكَ الْمُتَكَلِّمُ رُبَّمَا وَضَعَ يَدَ نَفْسِهِ عَلَى فَمِ نَفْسِهِ وَغَرَضُهُ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ أَنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَى ذَلِكَ الْكَلَامِ الْبَتَّةَ.

الوجه الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي أَيْدِيهِمْ يَرْجِعُ إِلَى الْكُفَّارِ وَفِي الْأَفْوَاهِ إِلَى الرُّسُلِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ:

أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا سَمِعُوا وَعْظَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَنَصَائِحَهُمْ وَكَلَامَهُمْ أَشَارُوا بِأَيْدِيهِمْ إِلَى أَفْوَاهِ الرُّسُلِ تَكْذِيبًا لَهُمْ وَرَدًّا عَلَيْهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْكُفَّارَ وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَفْوَاهِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَنْعًا لَهُمْ مِنَ الْكَلَامِ، وَمَنْ بَالَغَ فِي مَنْعِ غَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ فَقَدْ يُفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ. أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ ذِكْرَ الْيَدِ وَالْفَمِ تَوَسُّعٌ وَمَجَازٌ فَفِيهِ وُجُوهٌ:

/ الوجه الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: الْمُرَادُ بِالْيَدِ مَا نَطَقَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الْحُجَجِ وَذَلِكَ لِأَنَّ إِسْمَاعَ الْحُجَّةِ إِنْعَامٌ عَظِيمٌ وَالْإِنْعَامُ يُسَمَّى يَدًا. يُقَالُ لِفُلَانٍ عِنْدِي يَدٌ إِذَا أَوْلَاهُ مَعْرُوفًا، وقد يذكر اليد. المراد مِنْهَا صَفْقَةُ الْبَيْعِ وَالْعَقْدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الْفَتْحِ: ١٠] فَالْبَيِّنَاتُ الَّتِي كَانَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَذْكُرُونَهَا وَيُقَرِّرُونَهَا نِعَمٌ وَأَيَادٍ، وَأَيْضًا الْعُهُودُ الَّتِي كَانُوا يَأْتُونَ بِهَا مَعَ الْقَوْمِ أيادي وَجَمْعُ الْيَدِ فِي الْعَدَدِ الْقَلِيلِ هُوَ الْأَيْدِي وَفِي الْعَدَدِ الْكَثِيرِ هُوَ الْأَيَادِي، فَثَبَتَ أَنَّ بيانات الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَعُهُودَهُمْ صَحَّ تَسْمِيَتُهَا بِالْأَيْدِي، وَإِذَا كَانَتِ النَّصَائِحُ وَالْعُهُودُ إِنَّمَا تَظْهَرُ مِنَ الْفَمِ فَإِذَا لَمْ تُقْبَلْ صَارَتْ مَرْدُودَةً إِلَى حَيْثُ جَاءَتْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [النُّورِ: ١٥] فَلَمَّا كَانَ الْقَبُولُ تَلَقِّيًا بِالْأَفْوَاهِ عَنِ الْأَفْوَاهِ كَانَ الدَّفْعُ رَدًّا فِي الْأَفْوَاهِ، فَهَذَا تَمَامُ كَلَامِ أَبِي مُسْلِمٍ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الوجه.

الوجه الثَّانِي: نَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ أَنَّهُمْ سَكَتُوا

<<  <  ج: ص:  >  >>