للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المراد من كلمة (من) هاهنا هُوَ الْكُلُّ فَهُوَ عَيْنُ مَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ لِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّ قَوْلَهُ: لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ هُوَ أَنَّهُ يَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَهَذَا عَيْنُ مَا نَقَلَهُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَحُكِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ إِنْكَارُهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْمُرَادُ مِنْهُ إِبْدَالُ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ فَلَيْسَ فِي اللُّغَةِ أَنَّ كَلِمَةَ مِنْ تُفِيدُ الْإِبْدَالَ، وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» : الْمُرَادُ تَمْيِيزُ خِطَابِ الْمُؤْمِنِ عَنْ خِطَابِ الْكَافِرِ بِمَزِيدِ التَّشْرِيفِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الطَّامَّاتِ، لِأَنَّ هَذَا التَّبْعِيضَ إِنْ حَصَلَ فَلَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِ هَذَا الْجَوَابِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ كَانَ هَذَا الْجَوَابُ فَاسِدًا، وَأَمَّا قَوْلُ الْأَصَمِّ فَقَدْ سَبَقَ إِبْطَالُهُ، وَأَمَّا قَوْلُ الْقَاضِي فَجَوَابُهُ: أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ صَارَتْ ذُنُوبُهُ بِأَسْرِهَا مَغْفُورَةً

لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ»

فَثَبَتَ أَنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ تَعَسُّفٌ سَاقِطٌ بَلِ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُ بَعْضَ ذُنُوبِهِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ وَهُوَ مَا عَدَا الْكُفْرَ، وَأَمَّا الْكُفْرُ فَهُوَ أَيْضًا مِنَ الذُّنُوبِ وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَغْفِرُهُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُ كَبَائِرَ كَافِرٍ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ بِشَرْطِ أَنْ يَأْتِيَ بِالْإِيمَانِ فَبِأَنْ تَحْصُلَ هَذِهِ الْحَالَةُ لِلْمُؤْمِنِ كَانَ أَوْلَى، هَذَا مَا خَطَرَ بِالْبَالِ عَلَى سَبِيلِ الِارْتِجَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ.

النوع الثَّانِي: مِمَّا وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَفِيهِ/ وَجْهَانِ:

الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى أَنَّكُمْ إِنْ آمَنْتُمْ أَخَّرَ اللَّهُ مَوْتَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَإِلَّا عَاجَلَكُمْ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى يُمَتِّعَكُمْ فِي الدُّنْيَا بِالطَّيِّبَاتِ وَاللَّذَّاتِ إِلَى الْمَوْتِ.

فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الْأَعْرَافِ: ٣٤] فكيف قال هاهنا: وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى.

قُلْنَا: قَدْ تَكَلَّمْنَا فِي هَذِهِ المسألة فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ [الْأَنْعَامِ: ٢] ثُمَّ حَكَى تَعَالَى أَنَّ الرُّسُلَ لَمَّا ذَكَرُوا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِأُولَئِكَ الْكُفَّارِ قَالُوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أنوع مِنَ الشُّبَهِ:

فَالشُّبْهَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْأَشْخَاصَ الْإِنْسَانِيَّةَ مُتَسَاوِيَةٌ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَبْلُغَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ تِلْكَ الْأَشْخَاصِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُطَّلِعًا عَلَى الْغَيْبِ مُخَالِطًا لِزُمْرَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَالْبَاقُونَ يَكُونُونَ غَافِلِينَ عَنْ كُلِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ أَيْضًا كَانُوا يَقُولُونَ: إِنْ كُنْتَ قَدْ فَارَقْتَنَا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْعَالِيَةِ الْإِلَهِيَّةِ الشَّرِيفَةِ، وَجَبَ أَنْ تُفَارِقَنَا فِي الْأَحْوَالِ الْخَسِيسَةِ، وَفِي الْحَاجَةِ إِلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْحَدَثِ وَالْوِقَاعِ، وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ هِيَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا.

وَالشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: التَّمَسُّكُ بِطَرِيقَةِ التَّقْلِيدِ، وَهِيَ أَنَّهُمْ وَجَدُوا آبَاءَهُمْ وَعُلَمَاءَهُمْ وَكُبَرَاءَهُمْ مُطْبِقِينَ مُتَّفِقِينَ عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. قَالُوا وَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أُولَئِكَ الْقُدَمَاءَ عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَقُوَّةِ خَوَاطِرِهِمْ لَمْ يَعْرِفُوا بُطْلَانَ هَذَا الدِّينِ، وَأَنَّ الرَّجُلَ الْوَاحِدَ عَرَفَ فَسَادَهُ وَوَقَفَ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَالْعَوَامُّ رُبَّمَا زَادُوا فِي هَذَا الْبَابِ كَلَامًا آخَرَ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ الْعَالِمَ إِذَا بَيَّنَ ضَعْفَ كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ قَالُوا لَهُ إِنَّ كَلَامَكَ إِنَّمَا يَظْهَرُ صِحَّتُهُ لَوْ كَانَ الْمُتَقَدِّمُونَ حَاضِرِينَ، أَمَّا الْمُنَاظَرَةُ مَعَ الْمَيِّتِ فَسَهْلَةٌ، فَهَذَا كَلَامٌ يَذْكُرُهُ الْحَمْقَى وَالرَّعَاعُ وَأُولَئِكَ الْكُفَّارُ أَيْضًا ذَكَرُوهُ، وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ هِيَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا.

<<  <  ج: ص:  >  >>