للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَوَّلًا قَوْلَهُ: ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَخافَ وَعِيدِ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مُغَايِرًا لِلْخَوْفِ مِنْ وَعِيدِ اللَّهِ، وَنَظِيرُهُ: أَنَّ حُبَّ اللَّهِ تَعَالَى مُغَايِرٌ لِحُبِّ ثَوَابِ اللَّهِ، وَهَذَا مَقَامٌ شَرِيفٌ عَالٍ فِي أَسْرَارِ الْحِكْمَةِ وَالتَّصْدِيقِ.

ثم قال: وَاسْتَفْتَحُوا وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: للاستفتاح هاهنا مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: طَلَبُ الْفَتْحِ بِالنُّصْرَةِ، فَقَوْلُهُ: وَاسْتَفْتَحُوا أَيْ وَاسْتَنْصَرُوا اللَّهَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ [الْأَنْفَالِ: ١٩] . وَالثَّانِي: الْفَتْحُ الحكم وَالْقَضَاءُ، فَقَوْلُ رَبِّنَا: وَاسْتَفْتَحُوا أَيْ وَاسْتَحْكَمُوا اللَّهَ وَسَأَلُوهُ الْقَضَاءَ بَيْنَهُمْ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْفُتَاحَةِ وَهِيَ الْحُكُومَةُ كَقَوْلِهِ: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [الْأَعْرَافِ: ٨٩] .

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: كِلَا الْقَوْلَيْنِ ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ. أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَالْمُسْتَفْتِحُونَ هُمُ الرُّسُلُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمُ اسْتَنْصَرُوا اللَّهَ وَدَعَوْا عَلَى قَوْمِهِمْ بِالْعَذَابِ لما أيسوا من إيمانهم: قالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نُوحٍ: ٢٦] وَقَالَ مُوسَى: رَبَّنَا اطْمِسْ [يُونُسَ: ٨٨] الْآيَةَ. وَقَالَ لُوطٌ: رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: ٣٠] وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ: وَهُوَ طَلَبُ الْحِكْمَةِ وَالْقَضَاءِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَفْتِحُونَ هُمُ الْأُمَمَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ الرُّسُلُ صَادِقِينَ فَعَذِّبْنَا، وَمِنْهُ قَوْلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الْأَنْفَالِ: ٣٢] . وَكَقَوْلِ آخَرِينَ ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [العنكبوت: ٢٩] .

المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَوْلُهُ: وَاسْتَفْتَحُوا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ وَقُرِئَ وَاسْتَفْتِحُوا بِلَفْظِ الْأَمْرِ وَعَطَفَهُ عَلَى قَوْلِهِ: لَنُهْلِكَنَّ أَيْ أَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: لَنُهْلِكَنَّ وَقَالَ لَهُمُ اسْتَفْتَحُوا.

ثم قال تَعَالَى: وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

المسألة الْأُولَى: إِنْ قُلْنَا: الْمُسْتَفْتِحُونَ هُمُ الرُّسُلُ، كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ الرُّسُلَ اسْتَفْتَحُوا فَنُصِرُوا وَظَفِرُوا بِمَقْصُودِهِمْ وَفَازُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَهُمْ قَوْمُهُمْ، وَإِنْ قُلْنَا: الْمُسْتَفْتِحُونَ هُمُ الْكَفَرَةُ، فَكَانَ الْمَعْنَى: أَنَّ الْكُفَّارَ اسْتَفْتَحُوا عَلَى الرُّسُلِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَالرُّسُلَ عَلَى الْبَاطِلِ وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْهُمْ وَمَا أَفْلَحَ بِسَبَبِ اسْتِفْتَاحِهِ عَلَى الرسل.

المسألة الثانية: الجبار هاهنا المتكبر على طاعة الله تعالى وَعِبَادَتِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا

[مَرْيَمَ: ١٤] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَنِ الْأَحْمَرِ: يُقَالُ فِيهِ جَبْرِيَّةٌ وَجَبَرُوَّةٌ وَجَبَرُوتٌ وَجَبُّورَةٌ، وَحَكَى الزَّجَّاجُ: الْجِبِرِيَّةُ وَالْجِبِرُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْبَاءِ وَالتَّجْبَارُ وَالْجِبْرِيَاءُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فَهِيَ ثَمَانِ لُغَاتٍ فِي مَصْدَرِ الْجَبَّارِ،

وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ امْرَأَةً حَضَرَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهَا أَمْرًا فَأَبَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا جَبَّارَةٌ»

أَيْ مُسْتَكْبِرَةٌ، وَأَمَّا الْعَنِيدُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي اشْتِقَاقِهِ، قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: الْعُنُودُ الْخِلَافُ وَالتَّبَاعُدُ وَالتَّرْكُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَصْلُهُ مِنَ الْعِنْدِ وَهُوَ النَّاحِيَةُ يُقَالُ: فُلَانٌ يَمْشِي عِنْدًا، أَيْ نَاحِيَةً، فَمَعْنَى عَانَدَ وَعَنَدَ. أَخَذَ فِي نَاحِيَةٍ مُعْرِضًا، وَعَانَدَ فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا جَانَبَهُ وَكَانَ مِنْهُ عَلَى نَاحِيَةٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>