للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَجَابَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ بِأَنَّ هَذَا قَوْلُ الشَّيْطَانِ فَلَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ.

وَأَجَابَ الْخَصْمُ عَنْهُ: بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ بَاطِلًا لَبَيَّنَ اللَّهُ بُطْلَانَهُ وَأَظْهَرَ إِنْكَارَهُ، وَأَيْضًا فَلَا فَائِدَةَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ الْبَاطِلِ وَالْقَوْلِ الْفَاسِدِ. أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ كَلَامٌ حَقٌّ وَقَوْلَهُ: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ قَوْلٌ حَقٌّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الْحِجْرِ: ٤٢] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ الْأَصْلِيَّ هُوَ النَّفْسُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ بَيَّنَ أَنَّهُ مَا أَتَى إِلَّا بِالْوَسْوَسَةِ، فَلَوْلَا الْمَيْلُ الْحَاصِلُ بِسَبَبِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ وَالْوَهْمِ وَالْخَيَالِ لَمْ يَكُنْ لِوَسْوَسَتِهِ تَأْثِيرٌ الْبَتَّةَ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ الْأَصْلِيَّ هُوَ النَّفْسُ.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: بَيِّنُوا لَنَا حَقِيقَةَ الْوَسْوَسَةِ.

قُلْنَا: الْفِعْلُ إِنَّمَا يَصْدُرُ عَنِ الْإِنْسَانِ عِنْدَ حُصُولِ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ يَتَرَتَّبُ بَعْضُهَا عَلَى الْبَعْضِ تَرْتِيبًا/ لَازِمًا طَبِيعِيًّا وَبَيَانُهُ أَنَّ أَعْضَاءَ الْإِنْسَانِ بِحُكْمِ السَّلَامَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَالصَّلَاحِيَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ صَالِحَةٌ لِلْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَالْإِقْدَامِ وَالْإِحْجَامِ، فَمَا لَمْ يَحْصُلْ فِي الْقَلْبِ مَيْلٌ إِلَى تَرْجِيحِ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ أَوْ بِالْعَكْسِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ صُدُورُ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ الْمَيْلُ هُوَ الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ، وَالْقَصْدُ الْجَازِمُ. ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ عِلْمٍ أَوِ اعْتِقَادٍ أَوْ ظَنٍّ بِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ سَبَبٌ لِلنَّفْعِ أَوْ سَبَبٌ لِلضَّرَرِ فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ هَذَا الِاعْتِقَادُ لَمْ يَحْصُلِ الْمَيْلُ لَا إِلَى الْفِعْلِ وَلَا إِلَى التَّرْكِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَحَسَّ بِشَيْءٍ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ شُعُورُهُ بِكَوْنِهِ مُلَائِمًا لَهُ أَوْ بِكَوْنِهِ مُنَافِرًا لَهُ أَوْ بِكَوْنِهِ غَيْرَ مُلَائِمٍ وَلَا مُنَافِرٍ، فَإِنْ حَصَلَ الشُّعُورُ بِكَوْنِهِ مُلَائِمًا لَهُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْمَيْلُ الْجَازِمُ إِلَى الْفِعْلِ وَإِنْ حَصَلَ الشُّعُورُ بِكَوْنِهِ مُنَافِرًا لَهُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْمَيْلُ الْجَازِمُ إِلَى التَّرْكِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَا هَذَا وَلَا ذَاكَ لَمْ يَحْصُلِ الْمَيْلُ لَا إِلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ وَلَا إِلَى ضِدِّهِ، بَلْ بَقِيَ الْإِنْسَانُ كَمَا كَانَ، وَعِنْدَ حُصُولِ ذَلِكَ الْمَيْلِ الْجَازِمِ تَصِيرُ الْقُدْرَةُ مَعَ ذَلِكَ الْمَيْلِ مُوجِبَةً لِلْفِعْلِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: صُدُورُ الْفِعْلِ عَنْ مَجْمُوعِ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِي الْحَاصِلِ أَمْرٌ وَاجِبٌ فَلَا يَكُونُ لِلشَّيْطَانِ مَدْخَلٌ فِيهِ وَصُدُورُ الْمَيْلِ عَنْ تَصَوُّرِ كَوْنِهِ خَيْرًا أَوْ تَصَوُّرِ كَوْنِهِ شَرًّا أَمْرٌ وَاجِبٌ فَلَا يَكُونُ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ مَدْخَلٌ وَحُصُولُ كونه خيرا أو تصورا كَوْنِهِ شَرًّا عَنْ مُطْلَقِ الشُّعُورِ بِذَاتِهِ أَمْرٌ لَازِمٌ فَلَا مَدْخَلَ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ، فَلَمْ يَبْقَ لِلشَّيْطَانِ مَدْخَلٌ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ إِلَّا فِي أَنْ يُذَكِّرَهُ شَيْئًا بِأَنْ يُلْقِيَ إِلَيْهِ حَدِيثَهُ مِثْلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ كَانَ غَافِلًا عَنْ صُورَةِ امْرَأَةٍ فَيُلْقِي الشَّيْطَانُ حَدِيثَهَا فِي خَاطِرِهِ فَالشَّيْطَانُ لَا قُدْرَةَ لَهُ إِلَّا فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَهُوَ عَيْنُ مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي يَعْنِي مَا كَانَ مِنِّي إِلَّا مُجَرَّدُ هَذِهِ الدَّعْوَةِ فَأَمَّا بَقِيَّةُ الْمَرَاتِبِ فَمَا صَدَرَتْ مِنِّي وَمَا كَانَ لِي فِيهَا أَثَرٌ الْبَتَّةَ. بَقِيَ فِي هَذَا الْمَقَامِ سُؤَالَانِ:

السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ يُعْقَلُ تَمَكُّنُ الشَّيْطَانِ مِنَ النُّفُوذِ فِي دَاخِلِ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ وَإِلْقَاءِ الْوَسْوَسَةِ إِلَيْهِ.

وَالْجَوَابُ: لِلنَّاسِ فِي الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ قَوْلَانِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَا سِوَى اللَّهِ بِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ: الْمُتَحَيِّزِ، وَالْحَالِّ في المتحيز،

<<  <  ج: ص:  >  >>