يَسْرِي فِي وَرَقِ الْوَرْدِ، وَدُهْنَ السِّمْسِمِ يَجْرِي في جسم السمسم فكذا هاهنا، فَظَهَرَ بِمَا قَرَّرْنَا أَنَّ الْقَوْلَ بِإِثْبَاتِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ أَمْرٌ لَا تُحِيلُهُ الْعُقُولُ وَلَا تُبْطِلُهُ الدَّلَائِلُ، وَأَنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الْإِنْكَارِ لَيْسَ إِلَّا مِنْ نَتِيجَةِ الْجَهْلِ وَقِلَّةِ الْفِطْنَةِ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالشَّيَاطِينِ مُمْكِنٌ فِي الْجُمْلَةِ فَنَقُولُ: الْأَحَقُّ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الْمَلَائِكَةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَخْلُوقُونَ مِنَ النُّورِ، وَالشَّيَاطِينُ مَخْلُوقُونَ مِنَ الدُّخَانِ وَاللَّهَبِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ [الْحِجْرِ: ٢٧] وَهَذَا الْكَلَامُ مِنَ الْمَشْهُورَاتِ عِنْدَ قُدَمَاءِ الْفَلَاسِفَةِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَسْتَبْعِدَهُ مِنْ صَاحِبِ شَرِيعَتِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَالَ الشَّيْطَانُ: فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ وَهُوَ أَيْضًا مَلُومٌ بِسَبَبِ إِقْدَامِهِ عَلَى تِلْكَ الْوَسْوَسَةِ الْبَاطِلَةِ.
وَالْجَوَابُ: أَرَادَ بِذَلِكَ فَلَا تَلُومُونِي عَلَى مَا فَعَلْتُمْ وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَيْهِ، لِأَنَّكُمْ عَدَلْتُمْ عَمَّا تُوجِبُهُ هِدَايَةُ اللَّهِ تَعَالَى لَكُمْ. ثم قال اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الشَّيْطَانِ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِمُغِيثِكُمْ وَلَا مُنْقِذِكُمْ، قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الصَّارِخُ الْمُسْتَغِيثُ وَالْمُصْرِخُ الْمُغِيثُ. يُقَالُ: صَرَخَ فلان إذا استغاث وقال: وا غوثاه وأصرحته أَغَثْتُهُ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ: بِمُصْرِخِيِّ بِكَسْرِ الْيَاءِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ وَيَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَعَلَّهَا مِنْ وَهْمِ الْقُرَّاءِ فَإِنَّهُ قَلَّ مَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ عَنِ الوهم ولعله أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: بِمُصْرِخِيَّ خَافِضَةٌ لِجُمْلَةِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْيَاءَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ خَارِجَةٌ مِنْ ذَلِكَ قَالَ، وَمِمَّا نَرَى أَنَّهُمْ وَهِمُوا فِيهِ قَوْلُهُ: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ [النِّسَاءِ: ١١٥] بِجَزْمِ الْهَاءِ ظَنُّوا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْجَزْمَ فِي الْهَاءِ وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّ الْهَاءَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَقَدِ انْجَزَمَ الْفِعْلُ قَبْلَهَا بِسُقُوطِ الْيَاءِ مِنْهُ، وَمِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ تَكَلَّفَ فِي ذِكْرِ وَجْهٍ لِصِحَّتِهِ إِلَّا أَنَّ الْأَكْثَرِينَ قَالُوا إِنَّهُ لَحْنٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثم قال تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: «مَا» فِي قَوْلِهِ: إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ وَالْمَعْنَى: كَفَرْتُ بِإِشْرَاكِكُمْ إِيَّايَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الطَّاعَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ جَحَدَ مَا كَانَ يَعْتَقِدُهُ أُولَئِكَ الْأَتْبَاعُ مِنْ كَوْنِ إِبْلِيسَ شَرِيكًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي تَدْبِيرِ هَذَا الْعَالَمِ وَكَفَرَ بِهِ، أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُطِيعُونَ الشَّيْطَانَ فِي أَعْمَالِ الشَّرِّ كَمَا كَانُوا قَدْ يُطِيعُونَ اللَّهَ فِي أَعْمَالِ الْخَيْرِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْإِشْرَاكِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ إِبْلِيسَ قَالَ: إِنِّي كَفَرْتُ بِاللَّهِ الَّذِي أَشْرَكْتُمُونِي بِهِ مِنْ قَبْلِ كُفْرِكُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ كَانَ كُفْرُهُ قَبْلَ كُفْرِ أُولَئِكَ الْأَتْبَاعِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (مَا) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ «مَنْ» وَالْقَوْلُ هُوَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يَنْتَظِمُ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا الْكَلَامُ مُنْتَظِمٌ عَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي، وَالتَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تَأْثِيرَ لِوَسْوَسَتِي فِي كُفْرِكُمْ بِدَلِيلِ أَنِّي كَفَرْتُ قَبْلَ أَنْ وَقَعْتُمْ فِي الْكُفْرِ وَمَا كَانَ كُفْرِي بِسَبَبِ وَسْوَسَةٍ أُخْرَى وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ سَبَبَ الْوُقُوعِ فِي الْكُفْرِ شَيْءٌ آخَرُ سِوَى الْوَسْوَسَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَنْتَظِمُ الْكَلَامُ.
أما قوله: إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّ كَلَامَ إِبْلِيسِ تَمَّ قبل هذا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute