للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِلْعَقْلِ السَّلِيمِ عَلَى سَائِرِهَا. وَأَمَّا الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ كَوْنُ هَذِهِ الشَّجَرَةِ ثَابِتَةَ الْأَصْلِ، فَهَذِهِ الصِّفَةُ فِي شَجَرَةِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَقْوَى وَأَكْمَلُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عُرُوقَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ رَاسِخَةٌ فِي جَوْهَرِ النَّفْسِ الْقُدُسِيَّةِ، وَهَذَا الْجَوْهَرُ جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ عَنِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ بَعِيدٌ عَنِ التَّغَيُّرِ وَالْفَنَاءِ، وَأَيْضًا مَدَدُ هَذَا الرُّسُوخِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ تَجَلِّي جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا التَّجَلِّي مِنْ لَوَازِمِ كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ فِي ذَاتِهِ نُورَ النُّورِ وَمَبْدَأَ الظُّهُورِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَمْتَنِعُ عَقْلًا زَوَالُهُ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَوَاجِبُ الْوُجُودِ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ وَالتَّغَيُّرُ وَالْفَنَاءُ وَالتَّبَدُّلُ وَالزَّوَالُ وَالْبُخْلُ وَالْمَنْعُ مُحَالٌ فِي حَقِّهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الشَّجَرَةَ الْمَوْصُوفَةَ بِكَوْنِهَا ثَابِتَةَ الْأَصْلِ لَيْسَتْ إِلَّا هَذِهِ الشَّجَرَةَ.

الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: لِهَذِهِ الشَّجَرَةِ كَوْنُهَا بِحَيْثُ يَكُونُ فَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ شَجَرَةَ الْمَعْرِفَةِ لَهَا أَغْصَانٌ صَاعِدَةٌ فِي هَوَاءِ الْعَالَمِ الْإِلَهِيِّ وَأَغْصَانٌ صَاعِدَةٌ فِي هَوَاءِ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ.

وَأَمَّا النوع الْأَوَّلُ: فَهِيَ أَقْسَامٌ كَثِيرَةٌ وَيَجْمَعُهَا

قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ»

وَيَدْخُلُ فِيهِ التَّأَمُّلُ فِي دَلَائِلِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي عَالَمِ الْأَرْوَاحِ، وَفِي عَالَمِ الْأَجْسَامِ، وَفِي أَحْوَالِ عَالَمِ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ، وَفِي أَحْوَالِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّوْقُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالِاعْتِمَادُ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالِانْقِطَاعُ بِالْكُلِّيَّةِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَالِاسْتِقْصَاءُ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ غَيْرُ مَطْمُوعٍ فِيهِ لِأَنَّهَا أَحْوَالٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ.

وَأَمَّا النوع الثَّانِي: فَهِيَ أَقْسَامٌ كَثِيرَةٌ وَيَجْمَعُهَا

قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ»

/ وَيَدْخُلُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَالرَّأْفَةُ وَالصَّفْحُ وَالتَّجَاوُزُ عَنِ الذُّنُوبِ، وَالسَّعْيُ فِي إِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَيْهِمْ، وَدَفْعِ الشَّرِّ عَنْهُمْ، وَمُقَابَلَةُ الْإِسَاءَةِ بِالْإِحْسَانِ. وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ أَيْضًا غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ وَهِيَ فُرُوعٌ ثَابِتَةٌ مِنْ شَجَرَةِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كُلَّمَا كَانَ أَكْثَرَ تَوَغُّلًا فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ عِنْدَهُ أَكْمَلَ وَأَقْوَى وَأَفْضَلَ.

وَأَمَّا الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها فَهَذِهِ الشَّجَرَةُ أَوْلَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الْأَشْجَارِ الْجُسْمَانِيَّةِ، لِأَنَّ شَجَرَةَ الْمَعْرِفَةِ مُوجِبَةٌ لِهَذِهِ الْأَحْوَالِ وَمُؤَثِّرَةٌ فِي حُصُولِهَا وَالسَّبَبُ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْمُسَبَّبِ فَأَثَرُ رُسُوخِ شَجَرَةِ الْمَعْرِفَةِ فِي أَرْضِ الْقَلْبِ أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ بالعبرة كما قال: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الْحَشْرِ: ٢] وَأَنْ يَكُونَ سَمَاعُهُ بِالْحِكْمَةِ كَمَا قَالَ: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزُّمَرِ: ١٨] وَنُطْقُهُ بِالصِّدْقِ وَالصَّوَابِ كَمَا قَالَ: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ [النِّسَاءِ: ١٣٥]

وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «قُولُوا الْحَقَّ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ»

وَهَذَا الْإِنْسَانُ كُلَّمَا كَانَ رُسُوخُ شَجَرَةِ الْمَعْرِفَةِ فِي أَرْضِ قَلْبِهِ أَقْوَى وَأَكْمَلَ، كَانَ ظُهُورُ هَذِهِ الْآثَارِ عِنْدَهُ أَكْثَرَ، وَرُبَّمَا تَوَغَّلَ في هذا الباب فيصير بحيث كلما لا حظ شَيْئًا لَاحَظَ الْحَقَّ فِيهِ، وَرُبَّمَا عَظُمَ تَرَقِّيهِ فِيهِ فَيَصِيرُ لَا يَرَى شَيْئًا إِلَّا وَقَدْ كَانَ قَدْ رَأَى اللَّهَ تَعَالَى قَبْلَهُ. فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَأَيْضًا فَمَا ذَكَرْنَاهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِلْهَامَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالْمَلَكَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ الَّتِي تَحْصُلُ فِي جَوَاهِرِ الْأَرْوَاحِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَصْعَدُ مِنْهَا فِي كُلِّ حِينٍ وَلَحْظَةٍ وَلَمْحَةٍ كَلَامٌ طَيِّبٌ وَعَمَلٌ صَالِحٌ وَخُضُوعٌ وَخُشُوعٌ وَبُكَاءٌ وَتَذَلُّلٌ، كَثَمَرَةِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ.

وَأما قوله: بِإِذْنِ رَبِّها فَفِيهِ دَقِيقَةٌ عَجِيبَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ، وَالدَّرَجَاتِ

<<  <  ج: ص:  >  >>