السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ مِنْ كَمْ وَجْهٍ تَدُلُّ عَلَى وجود الصانع الحكيم، وإنما بدأ بذكرهما هاهنا لِأَنَّهُمَا هُمَا الْأَصْلَانِ اللَّذَانِ يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِمَا سَائِرُ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ: [الحجة الثالثة] وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
البحث الْأَوَّلُ: لَوْلَا السَّمَاءُ لَمْ يَصِحَّ إِنْزَالُ الْمَاءِ مِنْهَا وَلَوْلَا الْأَرْضُ لَمْ يُوجَدْ مَا يَسْتَقِرُّ الْمَاءُ فِيهِ، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِمَا حَتَّى يَحْصُلَ هَذَا الْمَقْصُودُ وَهَذَا الْمَطْلُوبُ.
البحث الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَاءَ نَزَلَ مِنَ السَّحَابِ وَسُمِّيَ السَّحَابُ سَمَاءً اشْتِقَاقًا مِنَ السُّمُوِّ، وَهُوَ الِارْتِفَاعُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَهُ مِنْ نَفْسِ السَّمَاءِ وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا كَانَ واقفا على قلة جَبَلٍ عَالٍ وَيَرَى الْغَيْمَ أَسْفَلَ مِنْهُ فَإِذَا نَزَلَ مِنْ ذَلِكَ الْجَبَلِ يَرَى ذَلِكَ الْغَيْمَ مَاطِرًا عَلَيْهِمْ وَإِذَا كَانَ هَذَا أَمْرًا مُشَاهَدًا بِالْبَصَرِ كَانَ النِّزَاعُ فِيهِ بَاطِلًا.
البحث الثَّالِثُ: قَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ هَذِهِ الثَّمَرَاتِ بِوَاسِطَةِ هَذَا الْمَاءِ الْمُنْزَلِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَصْلَحَةً لِلْمُكَلَّفِينَ، لِأَنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا أَنَّ هَذِهِ الْمَنَافِعَ الْقَلِيلَةَ يَجِبُ أَنْ تُتَحَمَّلَ فِي تَحْصِيلِهَا الْمَشَاقُّ وَالْمَتَاعِبُ، فَالْمَنَافِعُ الْعَظِيمَةُ الدَّائِمَةُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ أَوْلَى أَنْ تُتَحَمَّلَ الْمَشَاقُّ فِي طَلَبِهَا، وَإِذَا كَانَ الْمَرْءُ يَتْرُكُ الرَّاحَةَ وَاللَّذَّاتِ طَلَبًا لِهَذِهِ الْخَيْرَاتِ الْحَقِيرَةِ، فَبِأَنْ يَتْرُكَ اللَّذَّاتِ الدُّنْيَوِيَّةَ لِيَفُوزَ بِثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتَخَلَّصَ عَنْ عِقَابِهِ أَوْلَى. وَلِهَذَا السَّبَبِ لَمَّا زَالَ التَّكْلِيفُ فِي الْآخِرَةِ أَنَالَ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ نَفْسٍ مُشْتَهَاهَا مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَلَا نَصَبٍ، هَذَا قَوْلُ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَالَ قَوْمٌ آخَرُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى يُحْدِثُ الثِّمَارَ وَالزُّرُوعَ بِوَاسِطَةِ هَذَا الْمَاءِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالمسألة كَلَامِيَّةٌ مَحْضَةٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
البحث الرَّابِعُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: لَفْظُ الثَّمَراتِ يَقَعُ فِي الْأَغْلَبِ عَلَى مَا يَحْصُلُ عَلَى الْأَشْجَارِ، وَيَقَعُ أَيْضًا عَلَى الزُّرُوعِ وَالنَّبَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [الْأَنْعَامِ: ١٤١] .
البحث الْخَامِسُ: قَالَ تَعَالَى: فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَخْرَجَ هَذِهِ الثَّمَرَاتِ لِأَجْلِ أَنْ تَكُونَ رِزْقًا لَنَا، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى قَصَدَ بِتَخْلِيقِ هَذِهِ الثَّمَرَاتِ إِيصَالَ الْخَيْرِ وَالْمَنْفَعَةِ إِلَى الْمُكَلَّفِينَ، لِأَنَّ الْإِحْسَانَ لَا يَكُونُ إِحْسَانًا إِلَّا إِذَا قَصَدَ الْمُحْسِنُ بِفِعْلِهِ إِيصَالَ النَّفْعِ إِلَى الْمُحْسَنِ إِلَيْهِ.
البحث السَّادِسُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَوْلُهُ: مِنَ الثَّمَراتِ بَيَانٌ لِلرِّزْقِ، أَيْ أَخْرَجَ بِهِ رِزْقًا هُوَ ثَمَرَاتٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَفْعُولَ أَخْرَجَ وَرِزْقًا حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ أَوْ نَصْبًا عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ أَخْرَجَ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى رَزَقَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَرَزَقَ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ.
فَأَمَّا الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ قَوْلُهُ: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تعالى: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ [الشُّورَى: ٣٢] فَفِيهَا مَبَاحِثُ:
البحث الْأَوَّلُ: أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِمَا يَنْبُتُ مِنَ الْأَرْضِ إِنَّمَا يَكْمُلُ بِوُجُودِ الْفُلْكِ الْجَارِي فِي الْبَحْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ كُلَّ طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ الْأَرْضِ بِنَوْعٍ آخَرَ مِنْ أَنْعُمِهِ حَتَّى إِنَّ نِعْمَةَ هَذَا الطَّرَفِ إِذَا نُقِلَتْ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنَ الْأَرْضِ وَبِالْعَكْسِ كَثُرَ الرِّبْحُ فِي التِّجَارَاتِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا النَّقْلَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِسُفُنِ الْبَرِّ وَهِيَ الْجِمَالُ أَوْ