للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَيْهَا، بَلْ أَعْطَى عِبَادَهُ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمُرَادَاتِ مَا لَا يَأْتِي عَلَى بَعْضِهَا التَّعْدِيدُ وَالْإِحْصَاءُ فَقَالَ: وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ من كل مسؤول شيئا، وقرئ: من كل بالتنوين وما سَأَلْتُمُوهُ نَفْيٌ وَمَحَلُّهُ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ أَيْ آتَاكُمْ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ غَيْرَ سَائِلِيهِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ «مَا» مَوْصُولَةً وَالتَّقْدِيرُ: آتَاكُمْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ مَا احْتَجْتُمْ إِلَيْهِ وَلَمْ تَصْلُحْ أَحْوَالُكُمْ وَمَعَايِشُكُمْ إِلَّا بِهِ، فَكَأَنَّكُمْ سَأَلْتُمُوهُ أَوْ طَلَبْتُمُوهُ بِلِسَانِ الْحَالِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ النِّعَمَ خَتَمَ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها قَالَ الْوَاحِدِيُّ: النعمة هاهنا اسْمٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْمَصْدَرِ يُقَالُ: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، يُنْعِمُ إِنْعَامًا وَنِعْمَةً أُقِيَمَ الِاسْمُ مَقَامَ الْإِنْعَامِ كَقَوْلِهِ: أَنْفَقْتُ عَلَيْهِ إِنْفَاقًا وَنَفَقَةً بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْمَعْ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَا تُحْصُوها أَيْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى تَعْدِيدِ جَمِيعِهَا لِكَثْرَتِهَا.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى أَقْسَامِ نِعَمِ اللَّهِ مُمْتَنِعٌ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ لِيَعْرِفَ عَجْزَ نَفْسِهِ عَنْهُ وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْهُ مِثَالَيْنِ.

الْمِثَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَطِبَّاءَ ذَكَرُوا أَنَّ الْأَعْصَابَ قِسْمَانِ، مِنْهَا دِمَاغِيَّةٌ وَمِنْهَا نُخَاعِيَّةٌ. أَمَّا الدِّمَاغِيَّةُ فَإِنَّهَا سَبْعَةٌ ثُمَّ أَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي مَعْرِفَةِ الحكم النَّاشِئَةِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ السَّبْعَةِ، ثُمَّ مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَرْوَاحِ السَّبْعَةِ تَنْقَسِمُ إِلَى شُعَبٍ كَثِيرَةٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الشُّعَبِ أَيْضًا إِلَى شُعَبٍ دَقِيقَةٍ أَدَقَّ مِنَ الشَّعَرِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَمَرٌّ إِلَى الْأَعْضَاءِ وَلَوْ أَنَّ شُعْبَةً وَاحِدَةً اخْتَلَّتْ إِمَّا بِسَبَبِ الْكَمِّيَّةِ أَوْ بِسَبَبِ الْكَيْفِيَّةِ أَوْ بِسَبَبِ الْوَضْعِ لَاخْتَلَّتْ مَصَالِحُ الْبِنْيَةِ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الشُّعَبَ الدَّقِيقَةَ تَكُونُ كَثِيرَةَ الْعَدَدِ جِدًّا، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا حِكْمَةٌ مَخْصُوصَةٌ، فَإِذَا نَظَرَ الْإِنْسَانُ فِي هَذَا الْمَعْنَى عرف أن الله تَعَالَى بِحَسَبِ كُلِّ شَظِيَّةٍ مِنْ تِلْكَ الشَّظَايَا الْعَصَبِيَّةِ عَلَى الْعَبْدِ نِعْمَةً عَظِيمَةً لَوْ فَاتَتْ لَعَظُمَ الضَّرَرُ عَلَيْهِ وَعَرَفَ قَطْعًا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهَا وَالِاطِّلَاعِ عَلَى أَحْوَالِهَا وَعِنْدَ هَذَا يَقْطَعُ بِصِحَّةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها وَكَمَا اعْتَبَرْتَ هَذَا فِي الشَّظَايَا الْعَصَبِيَّةِ فَاعْتَبِرْ مِثْلَهُ فِي الشَّرَايِينِ وَالْأَوْرِدَةِ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَعْضَاءِ الْبَسِيطَةِ وَالْمُرَكَّبَةِ بِحَسَبِ الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ وَالْوَضْعِ وَالْفِعْلِ وَالِانْفِعَالِ حَتَّى تَرَى أَقْسَامَ هَذَا الْبَابِ بَحْرًا لَا سَاحِلَ لَهُ، وَإِذَا اعْتَبَرْتَ هَذَا فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ فَاعْرِفْ أَقْسَامَ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي نَفْسِهِ وَرُوحِهِ، فَإِنَّ عَجَائِبَ عَالَمِ الْأَرْوَاحِ أَكْثَرُ مِنْ عَجَائِبِ عَالَمِ الْأَجْسَادِ ثُمَّ لَمَّا اعْتَبَرْتَ حَالَةَ الْحَيَوَانِ الْوَاحِدِ فَعِنْدَ ذَلِكَ اعْتَبِرْ أَحْوَالَ عَالَمِ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ وَطَبَقَاتِ الْعَنَاصِرِ وَعَجَائِبِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَعِنْدَ هَذَا تَعْرِفُ/ أَنَّ عُقُولَ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ لَوْ رُكِّبَتْ وَجُعِلَتْ عَقْلًا وَاحِدًا ثُمَّ بِذَلِكَ الْعَقْلِ يَتَأَمَّلُ الْإِنْسَانُ فِي عَجَائِبِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَقَلِّ الْأَشْيَاءِ لَمَا أَدْرَكَ مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيلَ، فَسُبْحَانَهُ تَقَدَّسَ عَنْ أَوْهَامِ الْمُتَوَهِّمِينَ.

الْمِثَالُ الثَّانِي: أَنَّكَ إِذَا أَخَذْتَ اللُّقْمَةَ الْوَاحِدَةَ لِتَضَعَهَا فِي الْفَمِ فَانْظُرْ إِلَى مَا قَبْلَهَا وَإِلَى مَا بَعْدَهَا أَمَّا الْأُمُورُ الَّتِي قَبْلَهَا: فَاعْرِفْ أَنَّ تِلْكَ اللُّقْمَةَ مِنَ الْخُبْزِ لَا تَتِمُّ وَلَا تَكْمُلُ إِلَّا إِذَا كَانَ هَذَا الْعَالَمُ بِكُلِّيَّتِهِ قَائِمًا عَلَى الوجه الْأَصْوَبِ، لِأَنَّ الْحِنْطَةَ لَا بُدَّ مِنْهَا، وأنها لا تنبت إلا معونة الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، وَتَرْكِيبِ الطَّبَائِعِ وَظُهُورِ الرِّيَاحِ وَالْأَمْطَارِ، وَلَا يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَّا بَعْدَ دَوَرَانِ الْأَفْلَاكِ، وَاتِّصَالِ بَعْضِ الْكَوَاكِبِ بِبَعْضٍ عَلَى وُجُوهٍ مَخْصُوصَةٍ فِي الْحَرَكَاتِ، وَفِي كَيْفِيَّتِهَا فِي الْجِهَةِ وَالسُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ ثُمَّ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ الْحِنْطَةُ لَا بُدَّ مِنْ آلَاتِ الطَّحْنِ وَالْخَبْزِ، وَهِيَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ تَوَلُّدِ الْحَدِيدِ فِي أَرْحَامِ الْجِبَالِ، ثُمَّ إِنَّ الْآلَاتِ الْحَدِيدِيَّةَ لَا يُمْكِنُ إِصْلَاحُهَا إِلَّا بِآلَاتٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>