للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المسألة الْأُولَى: قُرِئَ وَاجْنُبْنِي وَفِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ جَنَبَهُ وَأَجْنَبَهُ وَجَنَّبَهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُ جَنَبَنِي يَجْنُبُنِي بِالتَّخْفِيفِ. وَأَهْلُ نَجْدٍ يَقُولُونَ جَنَّبَنِي شَرَّهُ وَأَجْنَبَنِي شَرَّهُ، وَأَصْلُهُ جَعْلُ الشَّيْءِ عَنْ غَيْرِهِ عَلَى جَانِبٍ وَنَاحِيَةٍ.

المسألة الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْإِشْكَالُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَا رَبَّهُ أَنْ يَجْعَلَ مَكَّةَ آمِنًا، وَمَا قَبِلَ اللَّهِ دُعَاءَهُ، لِأَنَّ جَمَاعَةً خَرَّبُوا الْكَعْبَةَ وَأَغَارُوا عَلَى/ مَكَّةَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَا يَعْبُدُونَ الْوَثَنَ الْبَتَّةَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ اجْنُبْنِي عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا يَجْعَلَ أَبْنَاءَهُ مِنْ عَبَدَةِ الأصنام والله تعالى لم يقبل دعاءه، ولأن كُفَّارَ قُرَيْشٍ كَانُوا مِنْ أَوْلَادِهِ، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ.

فَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُمْ مَا كَانُوا أَبْنَاءَ إِبْرَاهِيمَ وَإِنَّمَا كَانُوا أَبْنَاءَ أَبْنَائِهِ، وَالدُّعَاءُ مَخْصُوصٌ بِالْأَبْنَاءِ، فَنَقُولُ: فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ أُولَئِكَ الْأَبْنَاءِ أَبْنَاءَهُ مِنْ صُلْبِهِ، وَهُمْ مَا كَانُوا إِلَّا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، وَهُمَا كَانَا مِنْ أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَعْبُدُونَ الصَّنَمَ، فَقَدْ عَادَ السُّؤَالُ فِي أَنَّهُ مَا الْفَائِدَةُ فِي ذَلِكَ الدُّعَاءِ.

وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نُقِلَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ ذَكَرَ هَذَا الدُّعَاءَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ: جَعْلُ تِلْكَ الْبَلْدَةِ آمِنَةً مِنَ الْخَرَابِ. وَالثَّانِي: أن المراد جعل أهلها آمنين، كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: ٨٢] أَيْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ، وَهَذَا الوجه عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

الوجه الْأَوَّلُ: مَا اخْتَصَّتْ بِهِ مَكَّةُ مِنْ حُصُولِ مَزِيدٍ مِنَ الْأَمْنِ، وَهُوَ أَنَّ الْخَائِفَ كَانَ إِذَا الْتَجَأَ إِلَى مَكَّةَ أَمِنَ، وَكَانَ النَّاسُ مَعَ شِدَّةِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمْ يَتَلَاقَوْنَ بِمَكَّةَ فَلَا يَخَافُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَمِنْ ذَلِكَ أَمْنُ الْوَحْشِ فَإِنَّهُمْ يَقْرَبُونَ مِنَ النَّاسِ إِذَا كَانُوا بِمَكَّةَ، وَيَكُونُونَ مُسْتَوْحِشِينَ عَنِ النَّاسِ خَارِجَ مَكَّةَ، فَهَذَا النوع مِنَ الْأَمْنِ حَاصِلٌ فِي مَكَّةَ فَوَجَبَ حَمْلُ الدُّعَاءِ عَلَيْهِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً أَيْ بِالْأَمْرِ وَالحكم بِجَعْلِهِ آمِنًا وَذَلِكَ الْأَمْرُ وَالحكم حَاصِلٌ لَا مَحَالَةَ.

وَالْجَوَابُ: عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ ثَبِّتْنِي عَلَى اجْتِنَابِ عِبَادَتِهَا كَمَا قَالَ: وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [الْبَقَرَةِ: ١٢٨] أَيْ ثَبِّتْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ السُّؤَالُ؟ بَاقٍ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ تَعَالَى يُثَبِّتُ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى الِاجْتِنَابِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا السُّؤَالِ وَالصَّحِيحُ عِنْدِي فِي الْجَوَابِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْصِمُهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ هَضْمًا لِلنَّفْسِ وَإِظْهَارًا لِلْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ إِلَى فَضْلِ اللَّهِ فِي كُلِّ الْمَطَالِبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الصُّوفِيَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّ الشِّرْكَ نَوْعَانِ: شِرْكٌ جَلِيٌّ وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، وَشِرْكٌ خَفِيٌّ وَهُوَ تَعْلِيقُ القلب بالوسائط وَبِالْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ وَالتَّوْحِيدُ الْمَحْضُ هُوَ أَنْ يَنْقَطِعَ نظره عن الوسائط وَلَا يَرَى مُتَصَرِّفًا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَعْصِمَهُ عَنْ هَذَا الشِّرْكِ الْخَفِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>