للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المسألة الثَّانِيَةُ: رُبَّ حَرْفُ جَرٍّ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَيَلْحَقُهَا «مَا» عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً بِمَعْنَى شَيْءٍ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ:

رُبَّ مَا تَكْرَهُ النُّفُوسُ مِنَ الْأَمْرِ ... لَهُ فُرْجَةٌ كَحَلِّ العقال

فما فِي هَذَا الْبَيْتِ اسْمٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ مِنَ الصِّفَةِ، فَإِنَّ الْمَعْنَى رُبَّ شَيْءٍ تَكْرَهُهُ النُّفُوسُ وَإِذَا عَادَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِ كَانَ اسْمًا وَلَمْ يَكُنْ حَرْفًا، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٥] لَمَّا عَادَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِ عَلِمْنَا بِذَلِكَ أَنَّهُ اسْمٌ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ «مَا» قَدْ يَكُونُ اسْمًا إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ رُبَّ وُقُوعُ مِنْ بَعْدَهَا فِي قَوْلِ الشاعر:

يا رب من ينقص أزوادنا ... رُحْنَ عَلَى نُقْصَانِهِ وَاغْتَدَيْنَ

فَكَمَا دَخَلَتْ رُبَّ عَلَى كَلِمَةِ «مَنْ» وَكَانَتْ نَكِرَةً، فَكَذَلِكَ تَدْخُلُ عَلَى كَلِمَةِ (مَا) فَهَذَا ضَرْبٌ وَالضَّرْبُ الْآخَرُ أَنْ تَدْخُلَ مَا كَافَّةً كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالنَّحْوِيُّونَ يُسَمُّونَ مَا هَذِهِ الْكَافَّةَ يُرِيدُونَ أَنَّهَا بِدُخُولِهَا كَفَّتِ الْحَرْفَ عَنِ الْعَمَلِ الَّذِي كَانَ لَهُ، وَإِذَا حَصَلَ هَذَا الْكَفُّ فَحِينَئِذٍ تَتَهَيَّأُ لِلدُّخُولِ عَلَى مَا لَمْ تَكُنْ تَدْخُلُ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ رُبَّ إِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى الِاسْمِ الْمُفْرَدِ نَحْوُ رُبَّ رَجُلٍ يَقُولُ ذَاكَ وَلَا تَدْخُلُ عَلَى الْفِعْلِ، فَلَمَّا دَخَلَتْ «مَا» عَلَيْهَا هَيَّأَتْهَا لِلدُّخُولِ عَلَى الْفِعْلِ كَهَذِهِ الْآيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ رُبَّ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّقْلِيلِ، وَهِيَ فِي التَّقْلِيلِ نَظِيرَةُ كَمْ فِي التَّكْثِيرِ، فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: رُبَّمَا زَارَنَا فُلَانٌ، دَلَّ رُبَّمَا عَلَى تَقْلِيلِهِ الزِّيَارَةَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَنْ قَالَ إِنَّ رُبَّ يَعْنِي بِهَا الْكَثْرَةَ، فَهُوَ ضِدُّ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَهَهُنَا سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ تَمَنِّيَ/ الْكَافِرِ الْإِسْلَامَ مَقْطُوعٌ بِهِ، وكلما رُبَّ تُفِيدُ الظَّنَّ، وَأَيْضًا أَنَّ ذَلِكَ التَّمَنِّيَ يَكْثُرُ وَيَتَّصِلُ، فَلَا يَلِيقُ بِهِ لَفْظَةُ رُبَما مَعَ أَنَّهَا تُفِيدُ التَّقْلِيلَ.

وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ إِذَا أَرَادُوا التَّكْثِيرَ ذَكَرُوا لَفْظًا وُضِعَ لِلتَّقْلِيلِ، وَإِذَا أَرَادُوا الْيَقِينَ ذَكَرُوا لَفْظًا وُضِعَ لِلشَّكِّ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ: إِظْهَارُ التَّوَقُّعِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنِ التَّصْرِيحِ بِالْغَرَضِ، فَيَقُولُونَ: رُبَّمَا نَدِمْتَ عَلَى مَا فَعَلْتَ، وَلَعَلَّكَ تَنْدَمُ عَلَى فِعْلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ حَاصِلًا بِكَثْرَةِ النَّدَمِ وَوُجُودِهِ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ:

قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ

وَالوجه الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّ هَذَا التَّقْلِيلَ أَبْلَغُ فِي التَّهْدِيدِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَكْفِيكَ قَلِيلُ النَّدَمِ فِي كَوْنِهِ زَاجِرًا عَنْ هَذَا الْفِعْلِ فَكَيْفَ كَثِيرُهُ؟

وَالوجه الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ أَنْ يَشْغَلَهُمُ الْعَذَابُ عَنْ تَمَنِّي ذَاكَ إِلَّا فِي الْقَلِيلِ.

المسألة الرَّابِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ «رُبَّ» مُخْتَصَّةٌ بِالدُّخُولِ عَلَى الْمَاضِي كَمَا يُقَالُ: رُبَّمَا قَصَدَنِي عَبْدُ اللَّهِ، وَلَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ الْمُسْتَقْبَلُ بَعْدَهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

رُبَّمَا تَكْرَهُ النُّفُوسُ مِنَ الْأَمْرِ

<<  <  ج: ص:  >  >>