أما قوله تَعَالَى: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: السَّلْكُ إِدْخَالُ الشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ كَإِدْخَالِ الْخَيْطِ فِي الْمَخِيطِ وَالرُّمْحِ فِي الْمَطْعُونِ، وَقِيلَ:
فِي قَوْلِهِ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [الْمُدَّثِّرِ: ٤٢] أَيْ أَدْخَلَكُمْ فِي جَهَنَّمَ. وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَأَبُو عُبَيْدٍ: سَلَكْتُهُ وَأَسْلَكْتُهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْبَاطِلَ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ، فَقَالُوا: قَوْلُهُ كَذلِكَ نَسْلُكُهُ أَيْ كَذَلِكَ نَسْلُكُ الْبَاطِلَ وَالضَّلَالَ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَمْ يَجْرِ لِلضَّلَالِ وَالْكُفْرِ ذِكْرٌ فِيمَا قَبْلَ هَذَا اللَّفْظِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَيْهِ لَا يُقَالُ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وقوله: يَسْتَهْزِؤُنَ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ عَائِدٌ إِلَيْهِ، وَالِاسْتِهْزَاءُ بِالْأَنْبِيَاءِ كُفْرٌ وَضَلَالٌ، / فثبت صحة قولنا الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ هُوَ أَنَّهُ كَذَلِكَ نَسْلُكُ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ وَالِاسْتِهْزَاءَ بِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُسُلِهِ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، لِأَنَّا نَقُولُ: إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ عَائِدًا إِلَى الِاسْتِهْزَاءِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ عَائِدًا أَيْضًا إِلَى الِاسْتِهْزَاءِ لِأَنَّهُمَا ضَمِيرَانِ تَعَاقَبَا وَتَلَاصَقَا، فَوَجَبَ عَوْدُهُمَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ الِاسْتِهْزَاءِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّنَاقُضَ، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا بِكُفْرِهِ، وَالَّذِي لَا يَكُونُ كَذَلِكَ هُوَ الْمُسْلِمُ الْعَالِمُ بِبُطْلَانِ الْكُفْرِ فَلَا يُصَدِّقُ بِهِ، وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَسَلُكُ الْكُفْرَ فِي قَلْبِ الْكَافِرِ وَيَخْلُقُهُ فِيهِ فَمَا أَحَدٌ أَوْلَى بِالْعُذْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، وَلَكَانَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَذُمَّهُمْ فِي الدُّنْيَا وَأَنَّ يُعَاقِبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الوجه فَنَقُولُ: التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ عَائِدٌ إِلَى الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَقَالَ بَعْدَهُ: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ أَيْ هَكَذَا نَسْلُكُ الْقُرْآنَ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا السَّلْكِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُسْمِعُهُمْ هَذَا الْقُرْآنَ وَيَخْلُقُ فِي قُلُوبِهِمْ حِفْظَ هَذَا الْقُرْآنِ وَيَخْلُقُ فِيهَا الْعِلْمَ بِمَعَانِيهِ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لِجَهْلِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ مَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عِنَادًا وَجَهْلًا، فَكَانَ هَذَا مُوجِبًا لِلُحُوقِ الذَّمِّ الشَّدِيدِ بِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ بِالْإِجْمَاعِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ عَائِدًا إِلَيْهِ أَيْضًا لِأَنَّهُمَا ضَمِيرَانِ مُتَعَاقِبَانِ فَيَجِبُ عُودُهُمَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: كَذلِكَ مَعْنَاهُ: مِثْلَ مَا عَمِلْنَا كَذَا وَكَذَا نَعْمَلُ هَذَا السَّلْكَ فَيَكُونُ هَذَا تَشْبِيهًا لِهَذَا السَّلْكِ بِعَمَلٍ آخَرَ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَعْمَالِ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَجْرِ لِعَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ اللَّهِ ذِكْرٌ فِي سَابِقَةِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا قَوْلَهُ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَعْطُوفًا عَلَيْهِ وَمُشَبَّهًا بِهِ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: نَسْلُكُهُ عَائِدًا إِلَى الذِّكْرِ وَهَذَا تَمَامُ تَقْرِيرِ كَلَامِ الْقَوْمِ.
وَالْجَوَابُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: نَسْلُكُهُ عَائِدًا عَلَى الذِّكْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ مَذْكُورٌ بِحَرْفِ النُّونِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ إِظْهَارُ نِهَايَةِ التَّعْظِيمِ وَالْجَلَالَةِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّعْظِيمِ إِنَّمَا يَحْسُنُ ذِكْرُهُ إِذَا فَعَلَ فِعْلًا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ قَوِيٌّ كَامِلٌ بِحَيْثُ صَارَ الْمُنَازِعُ وَالْمُدَافِعُ لَهُ مَغْلُوبًا مَقْهُورًا. فَأَمَّا إِذَا فَعَلَ فِعْلًا وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ أَثَرٌ الْبَتَّةَ، صَارَ الْمُنَازِعُ وَالْمُدَافِعُ غَالِبًا قَاهِرًا، فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّفْظِ الْمُشْعِرِ بِنِهَايَةِ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالَةِ يَكُونُ مُسْتَقْبَحًا فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَالْأَمْرُ هاهنا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى سَلَكَ إِسْمَاعَ الْقُرْآنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute