للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النَّبَاتِ. وَالْغِذَاءُ الْحَيَوَانِيُّ أَشْرَفُ مِنَ الْغِذَاءِ النَّبَاتِيِّ، لِأَنَّ تَوَلُّدَ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ عِنْدَ أَكْلِ أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ أَسْهَلُ مِنْ تَوَلُّدِهَا عِنْدَ أَكْلِ النَّبَاتِ لِأَنَّ الْمُشَابَهَةَ هُنَاكَ أَكْمَلُ وَأَتَمُّ وَالْغِذَاءُ الْحَيَوَانِيُّ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ إِسَامَةِ الْحَيَوَانَاتِ وَالسَّعْيِ فِي تَنْمِيَتِهَا بِوَاسِطَةِ الرَّعْيِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِسَامَةِ، وَأَمَّا الْغِذَاءُ النَّبَاتِيُّ فَقِسْمَانِ:

حُبُوبٌ. وَفَوَاكِهٌ، أَمَّا الْحُبُوبُ فَإِلَيْهَا الْإِشَارَةُ بِلَفْظِ الزَّرْعِ وَأَمَّا الْفَوَاكِهُ فَأَشْرَفُهَا الزَّيْتُونُ. وَالنَّخِيلُ. وَالْأَعْنَابُ، أَمَّا الزَّيْتُونُ فَلِأَنَّهُ فَاكِهَةٌ مِنْ وَجْهٍ وَإِدَامٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لِكَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنَ الدُّهْنِ وَمَنَافِعُ الْأَدْهَانِ كَثِيرَةٌ فِي الْأَكْلِ وَالطَّلْيِ وَاشْتِعَالِ السُّرُجِ، وَأَمَّا امْتِيَازُ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ مِنْ سَائِرِ الْفَوَاكِهِ، فَظَاهِرٌ مَعْلُومٌ، وَكَمَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يَنْتَفِعُ النَّاسُ بِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ، ثم قال فِي صِفَةِ البقية: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [النحل: ٨] فكذلك هاهنا لَمَّا ذَكَرَ الْأَنْوَاعَ الْمُنْتَفَعَ بِهَا مِنَ النَّبَاتِ، قَالَ فِي صِفَةِ الْبَقِيَّةَ: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ تَفْصِيلَ الْقَوْلِ فِي أَجْنَاسِهَا وَأَنْوَاعِهَا وَصِفَاتِهَا وَمَنَافِعِهَا لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهُ فِي مُجَلَّدَاتٍ، فَالْأَوْلَى الِاقْتِصَارُ فِيهِ عَلَى الْكَلَامِ الْمُجْمَلِ.

ثم قال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وهاهنا بَحْثَانِ:

البحث الْأَوَّلُ: فِي شَرْحِ كَوْنِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ آيَاتٍ دَالَّةً عَلَى وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى فَنَقُولُ: إِنَّ الْحَبَّةَ الْوَاحِدَةَ تَقَعُ فِي الطِّينِ فَإِذَا مَضَتْ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ مَقَادِيرُ مُعَيَّنَةٌ مِنَ الْوَقْتِ نَفَذَتْ فِي دَاخِلِ تِلْكَ الْحَبَّةِ أَجْزَاءٌ مِنْ رُطُوبَةِ الْأَرْضِ وَنَدَاوَتِهَا فَتَنْتَفِخُ الْحَبَّةُ فَيَنْشَقُّ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلُهَا، فَيَخْرُجُ مِنْ أَعْلَى تِلْكَ الْحَبَّةِ شَجَرَةٌ صَاعِدَةٌ مِنْ دَاخِلِ الْأَرْضِ إِلَى الْهَوَاءِ. وَمِنْ أَسْفَلِهَا شَجَرَةٌ أُخْرَى غَائِصَةٌ فِي قَعْرِ الْأَرْضِ وَهَذِهِ الْغَائِصَةُ هِيَ الْمُسَمَّاةُ بِعُرُوقِ الشَّجَرَةِ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الشَّجَرَةَ لَا تَزَالُ تَزْدَادُ وَتَنْمُو وَتَقْوَى، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا الْأَوْرَاقُ وَالْأَزْهَارُ وَالْأَكْمَامُ وَالثِّمَارُ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الثَّمَرَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى أَجْسَامٍ مُخْتَلِفَةِ الطَّبَائِعِ مِثْلَ الْعِنَبِ، فَإِنَّ قِشْرَهُ وَعَجَمَهُ بَارِدَانِ يَابِسَانِ كَثِيفَانِ، وَلَحْمَهُ وَمَاؤَهُ حَارَّانِ رَطْبَانِ لَطِيفَانِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: نِسْبَةُ الطَّبَائِعِ السُّفْلِيَّةِ إِلَى هَذَا الْجِسْمِ مُتَشَابِهَةٌ وَنِسْبَةُ التَّأْثِيرَاتِ الْفَلَكِيَّةِ وَالتَّحْرِيكَاتِ الْكَوْكَبِيَّةِ إِلَى الْكُلِّ مُتَشَابِهَةٌ. وَمَعَ تَشَابُهِ نِسَبِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَرَى هَذِهِ الْأَجْسَامَ مُخْتَلِفَةً فِي الطَّبْعِ وَالطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَالرَّائِحَةِ وَالصِّفَةِ، فَدَلَّ صَرِيحُ الْعَقْلِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إِلَّا لِأَجْلِ فَاعِلٍ قَادِرٍ حَكِيمٍ رَحِيمٍ فَهَذَا تَقْدِيرُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ.

البحث الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أنه: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ... يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَنْبَتَهَا وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِنَّمَا حَدَثَتْ وَتَوَلَّدَتْ بِسَبَبِ تَعَاقُبِ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ وَتَأْثِيرَاتِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ؟ وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا السُّؤَالَ فَمَا لَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَا يَكُونُ هَذَا الدَّلِيلُ تَامًّا وَافِيًا بِإِفَادَةِ هَذَا الْمَطْلُوبِ، بَلْ يَكُونُ مَقَامُ الْفِكْرِ وَالتَّأَمُّلِ بَاقِيًا، فَلِهَذَا السَّبَبِ خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.

تم الجزء التاسع عَشَرَ، وَيَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْجُزْءُ العشرون، وأوله قوله تعالى وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ من سورة النحل. أعان الله على إكماله

<<  <  ج: ص:  >  >>