للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَلَائِكَةِ وَأَيْضًا لَمَّا ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وُجُوبُ عِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ، ثَبَتَ أَنَّ الْقِصَّةَ الْخَبِيثَةَ الَّتِي يَذْكُرُونَهَا فِي حَقِّ هَارُوتَ وَمَارُوتَ كَلَامٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ لَمَّا شَهِدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى عِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ وَبَرَاءَتِهِمْ عَنْ كُلِّ ذَنْبٍ، وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ تِلْكَ الْقِصَّةَ كَاذِبَةٌ بَاطِلَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاحْتَجَّ الطَّاعِنُونَ فِي عِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِالْخَوْفِ، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْإِقْدَامَ عَلَى الْكَبَائِرِ وَالذُّنُوبِ وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلِ الْخَوْفِ.

وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى مُنْذِرُهُمْ مِنَ الْعِقَابِ فَقَالَ: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٩] وَهُمْ لِهَذَا الْخَوْفِ يَتْرُكُونَ الذَّنْبَ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ ذَلِكَ الْخَوْفَ خَوْفُ الْإِجْلَالِ هَكَذَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: ٢٨] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَتْ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَتَمَّ، كَانَ الْخَوْفُ مِنْهُ أَعْظَمَ، وَهَذَا الْخَوْفُ لَا يَكُونُ إِلَّا خَوْفَ الْإِجْلَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُشَبِّهَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ تَعَالَى فَوْقَهُمْ بِالذَّاتِ.

وَاعْلَمْ أَنَّا بَالَغْنَا فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [الأنعام: ١٨] والذي نزيده هاهنا أَنَّ قَوْلَهُ: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ مَعْنَاهُ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ أَنْ يُنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِهَذَا الْمَعْنَى سَقَطَ قَوْلُهُمْ، وَأَيْضًا يَجِبُ حَمْلُ هَذِهِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْفَوْقِيَّةِ بِالْقُدْرَةِ وَالْقَهْرِ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ [الْأَعْرَافِ: ١٢٧] وَالَّذِي يُقَوِّي هَذَا الوجه أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضَى لِهَذَا الْخَوْفِ هُوَ كَوْنُ رَبِّهِمْ فَوْقَهُمْ لِمَا ثَبَتَ/ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُرَتَّبَ عَلَى الْوَصْفِ يُشْعِرُ بِكَوْنِ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الْوَصْفِ.

إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذَا التَّعْطِيلُ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْفَوْقِيَّةِ الْفَوْقِيَّةَ بِالْقَهْرِ وَالْقُدْرَةِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْخَوْفِ، أَمَّا الْفَوْقِيَّةُ بِالْجِهَةِ وَالْمَكَانِ فَهِيَ لَا تُوجِبُ الْخَوْفَ بِدَلِيلِ أَنَّ حَارِسَ الْبَيْتِ فَوْقَ الْمَلِكِ بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ مَعَ أَنَّهُ أَخَسُّ عَبِيدِهِ فَسَقَطَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مُكَلَّفُونَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مُتَوَجِّهٌ عَلَيْهِمْ كَسَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ، وَمَتَى كَانُوا كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا قَادِرِينَ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.

المسألة الرَّابِعَةُ: تَمَسَّكَ قَوْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ مِنْ وُجُوهٍ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَذَكَرْنَا أَنَّ تَخْصِيصَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ بِالذِّكْرِ إِنَّمَا يَحْسُنُ إِذَا كَانَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ أَخَسَّ الْمَرَاتِبِ وَكَانَ الطَّرَفُ الثَّانِي أَشْرَفَهَا حَتَّى يَكُونَ ذِكْرُ هَذَيْنِ الطَّرَفَيْنِ مُنَبِّهًا عَلَى الْبَاقِي، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَلَائِكَةُ أَشْرَفَ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى.

الوجه الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ تَكَبُّرٌ وَتَرَفُّعٌ وَقَوْلُهُ:

وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَعْمَالَهُمْ خَالِيَةٌ عَنِ الذَّنْبِ وَالْمَعْصِيَةِ، فَمَجْمُوعُ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَوَاطِنَهُمْ وَظَوَاهِرَهُمْ مُبَرَّأَةٌ عَنِ الْأَخْلَاقِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَفْعَالِ الْبَاطِلَةِ، وَأَمَّا الْبَشَرُ فَلَيْسُوا كَذَلِكَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ

<<  <  ج: ص:  >  >>