الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ حَصَلَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالُوا الْإِيمَانُ نِعْمَةٌ، وَكُلُّ نِعْمَةٍ فَهِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ يَنْتِجُ أَنَّ الْإِيمَانَ مِنَ اللَّهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْإِيمَانَ نِعْمَةٌ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مُطْبِقُونَ عَلَى قَوْلِهِمْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى نِعْمَةِ الْإِيمَانِ، وَأَيْضًا فَالنِّعْمَةُ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا يَكُونُ مُنْتَفَعًا بِهِ، وَأَعْظَمُ الْأَشْيَاءِ فِي النَّفْعِ هُوَ الْإِيمَانُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ نِعْمَةٌ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: وَكُلُّ نِعْمَةٍ فَهِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ تُفِيدُ الْعُمُومَ، وَأَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ فَهِيَ مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مَوْجُودًا فَهُوَ إِمَّا وَاجِبٌ لِذَاتِهِ، وَإِمَّا مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يُوجَدُ إِلَّا لِمُرَجِّحٍ، وَذَلِكَ الْمُرَجِّحُ إِنْ كَانَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ كَانَ حُصُولُ ذَلِكَ الْمُمْكِنِ بِإِيجَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ عَادَ التَّقْسِيمُ الْأَوَّلُ فِيهِ، وَلَا يَذْهَبُ إِلَى التَّسَلْسُلِ، بَلْ يَنْتَهِي إِلَى إِيجَادِ الْوَاجِبِ لذته، فَثَبَتَ بِهَذَا الْبَيَانِ أَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ فَهِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
المسألة الثَّالِثَةُ: النِّعَمُ إِمَّا دِينِيَّةٌ وَإِمَّا دُنْيَوِيَّةٌ، أَمَّا النِّعَمُ الدِّينِيَّةُ فَهِيَ إِمَّا مَعْرِفَةُ الْحَقِّ لِذَاتِهِ وَإِمَّا مَعْرِفَةُ الْخَيْرِ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، وَأَمَّا النِّعَمُ الدُّنْيَوِيَّةُ فَهِيَ إِمَّا نَفْسَانِيَّةٌ، وَإِمَّا بَدَنِيَّةٌ وَإِمَّا خَارِجِيَّةٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْحَصْرِ وَالتَّحْدِيدِ كَمَا قَالَ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيمَ: ٣٤] وَالْإِشَارَةُ إِلَى تَفْصِيلِ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ قَدْ ذَكَرْنَاهَا مِرَارًا فَلَا نُعِيدُهَا.
المسألة الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا دَخَلَتِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَمِنَ اللَّهِ لِأَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: بِكُمْ مُتَّصِلَةٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، وَالْمَعْنَى: مَا يَكُنْ بِكُمْ أَوْ مَا حَلَّ بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ.
ثم قال تَعَالَى: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الأسقام والأمراض والحاجة: فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ أَيْ تَرْفَعُونَ أَصْوَاتَكُمْ بِالِاسْتِغَاثَةِ، وَتَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ يُقَالُ: جَأَرَ يَجْأَرُ جُؤَارًا وَهُوَ الصَّوْتُ الشَّدِيدُ كَصَوْتِ الْبَقَرَةِ، وَقَالَ الْأَعْشَى يَصِفُ رَاهِبًا:
يُرَاوِحُ من صلوات المليك ... طَوْرًا سُجُودًا وَطَوْرًا جُؤَارًا
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ جَمِيعَ النِّعَمِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ إِذَا اتَّفَقَ لِأَحَدٍ مَضَرَّةٌ تُوجِبُ زَوَالَ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ النِّعَمِ فَإِلَى اللَّهِ يَجْأَرُ، أَيْ لَا يَسْتَغِيثُ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا مَفْزَعَ لِلْخَلْقِ إِلَّا هُوَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُمْ فَأَيْنَ أَنْتُمْ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فِي حَالِ الرَّخَاءِ وَالسَّلَامَةِ، ثم قال بَعْدَهُ: ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ عِنْدَ كَشْفِ الضُّرِّ وَسَلَامَةِ الْأَحْوَالِ يَفْتَرِقُونَ فَفَرِيقٌ مِنْهُمْ يَبْقَى عَلَى مَثَلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ الضُّرِّ فِي أَنْ لَا يَفْزَعَ إِلَّا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَفَرِيقٌ مِنْهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ يَتَغَيَّرُونَ فَيُشْرِكُونَ بِاللَّهِ غَيْرَهُ، وَهَذَا جَهْلٌ وَضَلَالٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا شَهِدَتْ فِطْرَتُهُ الْأَصْلِيَّةُ وَخِلْقَتُهُ الْغَرِيزِيَّةُ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْآفَاتِ وَالْمَخَافَاتِ أَنْ لَا مَفْزَعَ إِلَّا إِلَى الْوَاحِدِ، وَلَا مُسْتَغَاثَ إِلَّا الْوَاحِدُ فَعِنْدَ زَوَالِ الْبَلَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَجَبَ أَنْ يَبْقَى عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ، فَأَمَّا أَنَّهُ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ يُقِرُّ بِأَنَّهُ لَا مُسْتَغَاثَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَعِنْدَ زَوَالِ الْبَلَاءِ يثبت الأضداد والشركاء، فهذا جهل عَظِيمٌ وَضَلَالٌ كَامِلٌ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [الْعَنْكَبُوتِ: ٦٥] .
ثم قال تَعَالَى: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَفِي هَذِهِ اللَّامِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا لَامُ كَيْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ غَيْرَهُ فِي كَشْفِ ذَلِكَ الضُّرِّ عَنْهُمْ. وَغَرَضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْإِشْرَاكِ أَنْ يُنْكِرُوا كَوْنَ ذَلِكَ الْإِنْعَامِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَلَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute